العلم والفلسفة: هل بينهما اختلاف لهذه الدرجة؟
كثيرًا ما يتم تصوير غايات العلم والفلسفة وكأنها متناقضة، ولكن هل يعكس ذلك الحقيقة؟
العلم والفلسفة: هل بينهما اختلاف بهذه الدرجة؟ كثيرًا ما يتم تصوير غايات العلم والفلسفة وكأنها متناقضة، ولكن هل يعكس ذلك الحقيقة؟
ترجمة : إقبال عبيد
تحظى العبارات والعناوين والأخبار التي تتضمن كلمة "علمي" باهتمام واسع في وسائل الإعلام الرئيسية وفي المجتمع بشكل عام. يُعتبر اللجوء إلى المنهج العلمي في الأبحاث ضمانًا لسلامتها وموثوقيتها. ولكن، هل لدينا اليقين الكامل بموضوعية الاكتشافات العلمية؟ وما الذي يُعزز من ثقة الناس في هذا المنهج بصورة مذهلة؟ يمكن القول إن الفلسفة قد تفتح لنا أبوابًا جديدة لفهم القضايا العلمية، مُظهِرةً الصلة العميقة والترابط المتين بين هذين الحقلين، وتداخلاتهما المتعددة.
المنهج العلمي
عندما يُعبر عن منتجٍ ما بأنه مُختَبَر علميًا أو تُصنَّف نظريةٌ معينة بأنها مُثبَتة علميًا، فإنها تنال على الفور قيمةً واهتمامًا أكبر بكثير بالمقارنة مع منتجاتٍ ونظرياتٍ مشابهة. لكن، هل لدينا ما يبرر هذا الاعتراف الرفيع بالعلم؟ يُعرف العلم بنجاحاته المذهلة في التوصل إلى تنبؤاتٍ واكتشافاتٍ ذات قيمة عالية، فضلاً عن موثوقية منهجه المعروف بـ "المنهج العلمي".
تتألف الطريقة العلمية من رصد ظاهرة معينة، ومن ثم ابتداع فرضية أو أكثر لتفسير كيفية وسلوك هذه الظاهرة الملاحظة. تلي ذلك عملية تصميم تجارب واختبارات تهدف إلى التحقق من صحة هذه الفرضيات، إذا وُجدت، مع مراجعة الفرضيات عند الضرورة، وتكرار هذا الإجراء حتى يتم فك رموز طبيعة الظاهرة بشكل مُرضٍ وبالعمق الكافي.
قد تبدو هذه الطريقة بسيطة وفعّالة، ولكنها تتطلب مهارات استثنائية في صياغة فرضيات دقيقة، وتصميم تجارب ملائمة، وإجراء هذه التجارب بدقة متناهية. ومع ذلك، فإن الالتزام بكل خطوة والاهتمام الدقيق بعملك من شأنه أن يقودك إلى نتائج تحمل في طياتها الإرضاء والتقدير.
هل تنجح الطريقة العلمية دائمًا؟
تخيل نفسك في رحلة استكشاف للغوص في أعماق الأسرار التي تكمن وراء سقوط الأجسام، إذ ما إن تُطلق في الهواء حتى تتجه مباشرة نحو الأرض، لتصل إلى أقرب سطح أمامها. بعد مراقبتك لهذه الظاهرة المتكررة، ستبدأ في صياغة فرضية حول أسباب تلك الظاهرة، لتقوم بتجربتها بطرق مبتكرة حتى تصل إلى تفسير يجسد قمة الإقناع، ألا وهو قانون نيوتن للجاذبية الكونية.
وفي عام ٢٠١١، تجلت مشهد مماثل في مركز غران ساسو للأبحاث في إيطاليا، حيث انطلقت مجموعة من العلماء في رحلة فكرية جريئة، لتتحدى قانون أينشتاين الشهير للنسبية الذي يقر بأن لا شيء يمكنه أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء في الفراغ.
على النقيض من ذلك، في التجارب التي أُجريت في مركز غران ساسو للأبحاث، أفاد العلماء بأنهم رصدوا بعض الجسيمات دون الذرية المعروفة بالنيوترينوات، التي تتحرك بسرعات تفوق سرعة الضوء، مما يمثل تحديًا صارخًا لقانون أينشتاين الشهير. وفي هذا السياق تحديدًا، كما في المثال الخيالي المذكور آنفًا، لم يُلغَ القانون، بل وُضع الفرض بأن الخطأ يعود إلى جانب آخر من جوانب التجربة - سواء كان ذلك تطوير اختبار غير ملائم، أو تنفيذ غير دقيق لبعض الخطوات، أو حتى عطل في أحد الأجهزة.
دور المنهج العلمي
تظهر الأمثلة المذكورة في الفقرة السابقة أن اعتماد المنهج العلمي وحده لا يكفي لضمان الدقة المطلقة في التنبؤات، حيث تتجلى التساؤلات وتتسلل الأخطاء حتى في أرقى النظريات وأكثرها قبولًا ونجاحًا التي أبدعها أعظم العقول. كما يعبّر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، بأسلوبه الاستفزازي في كتابه "الزواج والأخلاق"، قائلاً: "إن شيوع رأي ما لا يعد دليلاً على خلوه من العبثية تمامًا؛ بل يبدو أنه، في ضوء سخف معظم البشر، يُرجَّح أن يكون الاعتقاد السائد أقرب إلى الحماقة منه إلى العقلانية".
لذا، حتى ضمن ما يُصنّف بأنه مُثبت علميًا، هناك دائمًا مجال للنقاش وحاجة لمواصلة البحث وإيجاد أدلة دامغة لإعادة تعريف الفرضيات والنظريات والقوانين.
ومع ذلك، بعد أن أُثبت أن اتباع المنهج العلمي لا يضمن نتائج قاطعة تمامًا في ميدان البحث العلمي، يبقى نجاحه الإجمالي في التنبؤات وإثبات النظريات أو دحضها ثابتًا لا يتزعزع. إن تسليط الضوء على مشاكله لا يعني تثبيط عزيمة استخدامه، بل يهدف إلى إزالة الغموض عن صحته المطلقة وتجنب التغافل عن حقيقة أنه رغم ميل التنبؤات التي يقدمها إلى الدقة، فإن كل فرضية أو قانون أو نظرية تبقى مفتوحة دومًا للتحقق والمراجعة، مهما كانت تبدو على درجة عالية من اليقين.
يُعتبر تاريخ العلوم والفلسفة بمثابة رحلة فكرية عميقة، حيث أبدع الإغريق القدماء، وفي مقدمتهم الفيلسوف العظيم أرسطو، في تشكيل عالم المعرفة كتناغم متكامل. فقد كان العلم والفلسفة يعملان بتناغم مذهل وفق أنظمة متشابهة تسعى لتحقيق إشراقة التنوير المعرفي. وبالتالي، كانت العلوم التي تُعرف اليوم بالفيزياء والكيمياء وعلم الحيوان والأنثروبولوجيا، تُصنف سابقًا تحت عنوان الفلسفة الطبيعية، مما يعكس التداخل الجميل بين هاتين الساحتين المعرفيتين.
أما اليوم، فيبدو العلم والفلسفة كتخصصين منفصلين تمامًا، ويُنظر إليهما على أنهما لا تربطهما أي صلة تُذكر. فقليل من الفلاسفة يتلقون تدريبًا في الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، بل ترتبط الفلسفة بالفنون والعلوم الإنسانية، وغالبًا ما تُقرن بمجالات مثل الأدب والتاريخ والدراسات الكلاسيكية. لذا، فإن مفهوم الفلسفة الذي طورناه في العصر الحديث يتناقض مع الدور الذي لعبه هذا التخصص تاريخيًا في مجال المعرفة.
ومع ذلك، فإن الارتباط بين الفلسفة والعلم متجذر في طبيعة التخصصين. لهذا السبب، من غير المجدي فهم كيفية إسهام كل منهما في الآخر، واعتبارهما متشابكين بشكل كبير. لقد ركّز تخصص فلسفة العلوم بعمق على العلاقة بين الموضوعين، وبحث في ما يميزهما، وما يشتركان فيه، وكيف يُتيح كل منهما فهمًا أعمق للآخر. ونظرًا لتشابه أهدافهما، فمن الواضح أن تحليل التخصصين كل على حدة أمرٌ غير مُجدٍ، على الرغم من التوجه الحديث الذي يدفع إلى ذلك.
تاريخ العلم والفلسفة
تشكل الإشكاليات المرتبطة بالمنهج العلمي نوافذ يمكن للفلسفة من خلالها أن تقدم بصيرة عميقة في جوهر العلم. فبالأساس، كان كل من الفلسفة والعلم يشكلان معًا جسدًا متكاملاً، وحتى وقت قريب، كان أعظم الفلاسفة يمتلكون خلفيات غنية في مجالات مثل الفيزياء والرياضيات. وقد تخيل الإغريق القدماء، ومنهم أرسطو، أن عالم المعرفة هو كيان موحد، حيث كان العلم والفلسفة يتعاونان عبر نظم متشابهة تهدف إلى تحقيق التنوير الفكري. وبالتالي، كانت العلوم التي نعرفها اليوم مثل الفيزياء والكيمياء وعلم الحيوان والأنثروبولوجيا - على سبيل المثال لا الحصر - تُصنف سابقًا تحت مظلة الفلسفة الطبيعية.
أما في أيامنا هذه، فإن العلم والفلسفة يتجليان كمجالين مُتميزين بوضوح، وكأنهما عالمان منفصلان لا تجمعهما رابطة تُذكر. فالكثير من الفلاسفة لا يتلقون التدريب الكافي في مجالات الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء؛ بل تُعتبر الفلسفة مجالًا يتناغم مع الفنون والعلوم الإنسانية، وغالبًا ما تُدمج مع ميادين مثل الأدب والتاريخ والدراسات الكلاسيكية. وبالتالي، فإن التصور المعاصر للفلسفة يتعارض تمامًا مع الدور التاريخي الذي اضطلع به هذا العلم في ساحة المعرفة.
إن الارتباط بين الفلسفة والعلم متأصل في جوهر هذين المجالين. لذا، يُعتبر من غير المجدي السعي لفهم كيفية تفاعل كل منهما مع الآخر، إذ إنهما يتداخلان بشكل كبير. وقد تناولت فلسفة العلم بعمق العلاقة بين هذين الحقلين، مستكشفةً ما يميز كل منهما وما يجمعهما، وكيف يُوفر كل منهما رؤية عميقة للأخر. ونظرًا لتقارب أهدافهما، يتبين بوضوح أن تحليل كل منهما بمعزل عن الآخر يعد عبثًا، رغم الاتجاهات الحديثة التي تدفع البعض نحو ذلك.
فلسفة العلوم
في الفصول السابقة، استعرضنا كيف أن القوة الممنوحة للعلم غالبًا ما تتماشى مع ارتفاع معدل نجاح تنبؤاته، وهو ما يُعزى إلى اعتماده على المنهج العلمي. بينما تفتقر المعرفة الفلسفية إلى ذات المكانة الرفيعة، وهو ما قد يعود إلى تنوع المناهج البحثية المستخدمة، فضلاً عن الجدل والنقاشات المحتدمة داخل هذا المجال، وغياب النتائج المعترف بها عالميًا. ومع ذلك، هناك إشكاليات فلسفية قد تحد من قدرة البحث العلمي، أو قد تُحجم عنه، أو تُثير الشكوك حول بعض جوانب المنهج العلمي.
على سبيل المثال، أثارت معضلة الاستقراء، التي طرحها الفيلسوف ديفيد هيوم لأول مرة، تساؤلات عميقة ومخاوف حقيقية حول أساسيات العلم. لقد كرس العديد من المفكرين والأكاديميين، مثل فيلسوف العلوم كارل بوبر، جهودهم الحثيثة للتصالح بين الاستدلال الاستقرائي والمنهج العلمي. فمشكلة الاستقراء تؤكد أنه لا يمكن الاعتماد على ادعاءات تُستخلص من ملاحظات فردية ومستقلة لتعميمها.
بمعنى آخر، فإن ملاحظة حالات متعددة لنفس الظاهرة - مثل سقوط كرة تنس إلى أقرب سطح بمجرد إطلاقها - لا تسمح للمرء بتقديم ادعاء عام حول الظاهرة، مثل أن جميع الأجسام، بمجرد إطلاقها، تسقط إلى أقرب سطح تستقر فيه.
ووفقًا لهيوم، فإن حقيقة أن هذا كان الحال دائمًا حتى الآن لا تضمن أنه سيظل كذلك دائمًا في المستقبل. نظرًا لمشكلة الاستقراء، فإن الادعاءات المستمدة من الاستدلال الاستقرائي دائمًا ما تكون غير مؤكدة ولا يمكن الاعتماد عليها؛ ونظرًا لاعتماد المنهج العلمي في الغالب على الاستدلال الاستقرائي، فإن مشكلة الاستقراء تضع جميع نتائجه على المحك.
المشكلات العلمية والحلول الفلسفية
كما تم التطرق إليه في الفقرة السابقة، تتميز الفلسفة، عن سائر التخصصات العلمية، بقدرتها الفائقة على كشف المغالطات المتسللة إلى المنهجيات العلمية، والتي قد تهدد العلم بتكوين تنبؤات قائمة على ادعاءات واهية بلا أساس. وفي ذات السياق، تبرز الفلسفة كأداة علمية عميقة قادرة على إضاءة دروب جديدة نحو حلول مبتكرة لهذه الإشكاليات.
أفاد العالم العظيم ألبرت أينشتاين بأنه "يتفق تمامًا [...] على أهمية وقيمة [...] تاريخ وفلسفة العلوم التعليمية". يظهر أن العديد من الأفراد في زمننا الحالي - حتى بين المختصين - [...] كمن وقف أمام الآلاف من الأشجار دون أن يلمح الغابة برمتها. إن إدراك الخلفية التاريخية والفلسفية يوفر هذا النوع من التحرر من تحيزات جيلهم، وهي المعضلة التي يعاني منها الكثير من العلماء. هذا التحرر المستمد من البصيرة الفلسفية هو [...] ما يميز بين الحرفي أو المتخصص البسيط وبين الباحث الحقيقي عن الحقيقة.
بعبارة أخرى، رغم أن العلماء قد يتسلحون بفهم عميق وثاقب للقضايا التي يتناولونها، إلا أنهم يمكن أن يغيب عنهم الإحاطة الكاملة بالإطار المعرفي الشامل، وهو ما لا يمكن أن يتيحه إلا البحث الفلسفي. ومن ثم، فإن التعاون بين الفلسفة والعلم سيؤدي إلى نتائج أكثر نجاحًا كحلفاء، بدلاً من أن يكونا سعيين للمعرفة يسلكان دروبًا منفصلة.
بينما تتسم المعرفة العلمية بتركيزها على قضايا محددة ودقيقة، فإن الفلسفة تتبوأ مقاماً سامياً في رسم الإطار العام لأساليب البحث والاستقصاء. وهكذا، تستطيع الفلسفة أن تعيد تأكيد سلطتها الأصيلة؛ أولاً، عبر تلبية احتياجات العلم من خلال ابتكار منهجيات بحثية مُحسّنة لكل مجال، وثانياً، من خلال إضاءة النقاط المظلمة وكشف المغالطات التي تعزز دقة المعرفة التي يسعى العلم إلى بلوغها.
لكن عند ذكر الفلسفة يجب علينا الحذر عند قراءتها غالباً الفلاسفة اذ لم يكن جميعهم يكونون ملحدين والعياذ بالله بطريقة غير مباشرة تجد معتقداتهم الدينيه في كتبهم لذالك اصبح البعض يتجنب قراءة الفلسفة الأجانب تحديداً حتى لا ينحرف عن دينية
مقال جميل وثري 🤍