ترجمة : إقبال عبيد
كتابة : تيفاني جكينز
أضحت التكنولوجيا في زماننا كبش فداءٍ سهلًا يُعلّق عليه تراجع مستويات القراءة، كما لو أنها أصل الداء لا مرآته. لكنّ جوهر المشكلة، في الحقيقة، يكمن في الطريقة التي بات بها مجتمعنا يتعامل مع القراءة: لا بوصفها أداةً للبحث والمعرفة وبناء الذات النقدية، بل كوسيلة سطحية لتلميع صورة "الأنا" والتعبير عنها أمام الآخرين.
منذ صدور أغنية "فيديو قتل نجم الراديو"، لم يُلقَ باللوم على التكنولوجيا بهذا القدر من التكرار والارتياح. فمن مشكلات الصحة النفسية، وتنامي العزلة الاجتماعية، إلى صعود نظريات المؤامرة والمشتتات اليومية التي لا تنتهي، أصبحت التكنولوجيا — وتحديدًا الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي — المتّهم الجاهز، والخصم المناسب دائمًا.
وها هي أزمة القراءة تُضاف اليوم إلى هذه القائمة السوداء. فالكتب، وأعمدة الصحف، ومنصات Substack، والبودكاستات المختلفة، تتسابق في إطلاق التحذيرات من اقترابنا من مجتمع "ما بعد الأميّة"، وتُشهر أصابع الاتهام في وجه الهاتف الذكي.
ويُستدعى كثيرًا اسم نيل بوستمان، الذي حذّر في كتابه "تسلية أنفسنا حتى الموت" (1985) من أن التلفزيون يُعيد تشكيل الخطاب العام، عبر تغليب الترفيه على المضمون، وتحويل الثقافة إلى مجرّد عرضٍ مسرحي استعراضي يُضعف قدرة الجمهور على التفاعل الجاد مع القضايا الحقيقية.
وقد رأى بعض المفكرين في يومنا هذا أن نبوءته قد تحققت بالكامل: فالكلمة المكتوبة قد تراجعت أمام سطوة الصورة، التي سرعان ما تراجعت هي الأخرى أمام زحف المنشورات السريعة، والمقاطع الفيروسية، والمواد الصوتية القصيرة.
وغدا العذر السائد: "هاتفي منعني من القراءة"، هو النظير العصري لعبارة: "الكلب أكل واجبي المنزلي".
ليست المخاوف بشأن تراجع مدى الانتباه ظاهرة مستحدثة. فمنذ عام 1792، أعرب الناشر الألماني يوهان جورج بول عن أسفه لما رآه تدهورًا في عادات القراءة، قائلاً: "لم يعد الألمان اليوم معتادين على القراءة كما كان يفعل آباؤنا". وقد هاجم ما وصفه حينها بـ*"نوعٍ من القراءة المتسرّعة"*، التي أخذت تحلّ محلّ القراءة العميقة الهادئة.
ويبدو أن هذا القلق — الذي يبدو لنا حديثًا — له جذور ضاربة في قرونٍ خلت. بل إن الهواجس المرتبطة بجودة الانتباه، لا بمجرد مداه، ليست وليدة العصر الرقمي. ففي القرن التاسع عشر، تفشّى الاعتقاد بأن النساء القارئات يُهدّدن بانهيار البنية الاجتماعية؛ إذ ربط بعض المفكرين آنذاك بين قراءة النساء وبين تفشي الدعارة، والجريمة، بل وحتى احتمالات الثورة.
ومع ذلك، فإنّ الحال اليوم يبعث على قلقٍ من نوعٍ آخر — قلقٍ مؤسَّس على أرقامٍ لا تحتمل التأويل. فمعدّلات القراءة حول العالم تشهد انخفاضًا مضطردًا، وقد كشف استطلاع أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية — شمل أكثر من 160 ألف بالغ من 31 دولة — عن منحى مقلق: إذ تراجعت كفاءة القراءة بشكل ملحوظ خلال العقد الماضي في معظم البلدان، باستثناء قلّة، كفنلندا والدنمارك.
لكن تحميل التكنولوجيا وحدها مسؤولية هذا التراجع، يُعدّ تبسيطًا مخلًّا، بل ضربًا من الجهل الذاتي؛ إذ يتغاضى عن انحدارٍ أعمق في القيم الثقافية المرتبطة بالقراءة والمعرفة ذاتها.
صحيحٌ أن نيل بوستمان ومارشال ماكلوهان — اللذَين كثيرًا ما يُستشهد بهما — قد نبّها في الستينيات إلى أن شكل الوسيلة لا يقل أثرًا عن مضمونها، بل هو الذي يُشكّل كيفية تلقي الجمهور للمحتوى وفهمه؛ إلا أن الاقتصار على هذا التحليل الإعلامي يُضيّق زاوية الرؤية.
فما لم نتراجع خطوة إلى الوراء، ونضع جانبًا الحتمية التكنولوجية، سنفشل في إدراك الصورة الأشمل. هناك أزمة ثقافية صامتة تتجاوز الوسيلة والمحتوى معًا — أزمة تتعلّق بقيمة الفكرة، ومكانة التأمل، وشرعية التعمّق، في زمنٍ بات فيه الاستهلاك أسرع من الفهم، والمرئي أسبق من المقروء.
في كتابه "إغلاق العقل الأمريكي" (1987)، أطلق الناقد الثقافي آلان بلوم تحذيرًا صارخًا من تآكل التراث الفلسفي والثقافي المشترك، محذرًا من أن الأجيال الجديدة تُحرَم، بشكل متزايد، من التعرّف الجاد إلى الأعمال الكبرى في الفلسفة، والأدب، والفكر السياسي الغربي. وقد رأى في ذلك خسارة لا تُقدّر بثمن، لأنها تفضي إلى ضحالة فكرية وانحدار في ملكة التفكير النقدي.
وبعد قرابة أربعة عقود من هذا التحذير، لا يبدو أن الجامعات — التي كان يُفترض أن تُثقل كاهل طلابها بالقراءة والتأمل — قد خالفت نبوءته، بل أكّدت صحتها.
خصص كتابًا واحدًا لفصل دراسي في جامعات اليوم، وستُفاجأ بالدهشة والارتباك: لا يطالع الطلاب إلا مقتطفات قصيرة، لا تكاد تُغني عن شيء. لم تَعُد تلك القراءات تُحتفَظ بها في رفوف المكتبات، بل باتت تُحمَّل على خوادم إلكترونية، يُهملها الطلبة غالبًا، دون كثير من التوقعات بأن تُناقَش بعمق أو تُستكشف بروحٍ حقيقية من الفضول.
تُقرأ النصوص — إن قُرئت — لا لجوهرها، بل لتفكيكها؛ تُتناوَل من زاوية نقدية صلبة، تحكمها حساسية سياسية تُحيط كل رواية أو نص تاريخي أو مفكر ماضوي بتحذيراتٍ تُمهّد للنفور منه. الثقافة الأكاديمية، التي كان يُفترض أن تكون فضاءً للارتقاء، تُتَّهَم اليوم بالنخبوية، وتُستهدف بالتفكيك — دون أن يُقدَّم لها بديلٌ واضح، أو مشروعٌ يُعيد البناء بعد الهدم.
يُلقى اللوم غالبًا على الطلبة، وكأنهم المسؤولون عن هذا التدهور، غير أنهم في الواقع لا يفعلون أكثر من الاستجابة لتوقعات بيئاتهم الأكاديمية، والامتثال لأدنى المعايير المفروضة عليهم من قِبل نظامٍ يعلّمهم أن يمرّوا مرورًا عابرًا بما كان يجب أن يُنهَل بعمق.
وذلك — إن وُجِدت الأكاديمية أصلًا. ففي العام الماضي وحده، سُرّح ما يُقارب عشرة آلاف موظف من أقسام الجامعات البريطانية، وتستعد "كنيسة كانتربري كرايست" ابتداءً من سبتمبر/أيلول المقبل، للتوقّف عن منح شهادات في الأدب الإنجليزي.
أما ما تبقّى من أقسام العلوم الإنسانية، فيبدو أنها رضخت لرؤية وزير التعليم البريطاني الأسبق تشارلز كلارك، الذي صرّح عام 2003 بأن التعليم "غير موثوق به" ما لم يُنتج عائدًا، وأن دراسة العصور الوسطى، تحديدًا، باتت من مخلّفات الماضي.
لقد أُفرغت فكرة التعليم من جوهرها، وأُعيد تعريفها بلغة المنفعة: يُبرَّر وجودها بما تدرّه من مردود اقتصادي أو اجتماعي على "الأطراف المعنية"، لا بما تزرعه في النفس من أسئلة، أو تفتحه من آفاق.
خارج أسوار الجامعة، تبدو النقاشات المجتمعية حول القراءة اختزالية إلى حدٍّ محزن، مُحمَّلة بنزعة نفعية باردة، تُفرغ القراءة من بعدها الوجودي وتحيلها إلى وصفة لتحسين المزاج.
فـ"وكالة القراءة" — وهي مؤسسة خيرية تُعنى بتشجيع القراءة لدى جميع الفئات العمرية — تُروّج لاقتناء الكتب بوصفه نشاطًا مفيدًا للصحة النفسية والرفاهية العامة والترقّي الاجتماعي، وهو ذات الخطاب الذي تتبناه "المؤسسة الوطنية لمحو الأمية"، حين تحثّ الناس على القراءة لعشر دقائق يوميًا "لتحسين صحتهم النفسية ورفاهيتهم".
لكنّ هذا الطرح، برغم نواياه الطيبة، لا يكاد يكون مُلهِمًا، فضلًا عن كونه لا يُنصف طبيعة النصوص العظيمة. فمَن يتناول روايةً مضطربة ومُقلقة كـالجريمة والعقاب لدوستويفسكي، أو عملًا حادًا كـالتشريح لمايكل ويلبيك، لا يفعل ذلك سعيًا وراء الراحة، بل لأن هذه الأعمال تحفر في الوعي، وتزعزع اليقين، وتفتح أبوابًا مغلقة في النفس.
هذا التصوّر المحدود للقراءة يتناقض جذريًا مع ما كانت عليه النظرة إليها في القرون السابقة. ففي القرن الثامن عشر، كان إهمال القراءة أو التخلّي عن الانخراط الفكري يُعد خللًا أخلاقيًا، لا مجرد تقصير معرفي.
يشير قاموس أكسفورد إلى أن أول استخدام لكلمة "تشتّت" ورد في مقالة نُشرت عام 1710 في مجلة ذا تاتلر، حيث ارتبطت بالرذيلة، وبالكسل بوصفه عارًا أخلاقيًا. ففي تلك المرحلة، لم يكن التركيز مجرّد فضيلة عقلية، بل قيمة أخلاقية يُقاس بها الإنسان.
ومع حلول أواخر القرن الثامن عشر، باتت القدرة على الانتباه إحدى ركائز التعليم، بل من علامات النضج الروحي والفكري. ارتفعت معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، وأصبحت الروايات تُستعار بشغف، وتُقرأ على ضوء الشموع، وتُناقش بين الأصدقاء وكأنها شؤون شخصية.
وقد وثّق جوناثان روز في كتابه "الحياة الفكرية للطبقات العاملة البريطانية" مشهدًا مُبهرًا لذلك العصر؛ حيث انخرط عدد كبير من البريطانيين من الطبقة العاملة — ما بين القرن الثامن عشر ومنتصف القرن العشرين — في قراءة الأدب والفلسفة والتاريخ والفكر السياسي، رغم ضيق ذات اليد، ومحدودية التعليم الرسمي، وضغوط الحياة اليومية.
ومع ذلك، سعوا إلى ارتقاء الذات لا عبر المسكّنات، بل عبر القراءة كمغامرة فكرية، ومجال للتكوين الداخلي، وممارسة أخلاقية تُجسّد الإيمان بأن العقل يستحق أن يُروى، حتى في وجه التعب والتشتّت.
قد ازدهرت الحياة الثقافية يومًا في أماكن لم يكن يُظنّ أن تنبت فيها المعرفة. ففي مناجم الفحم الويلزية، بين الضجيج والسواد، كانت القراءة مشعلًا يتّقد في العتمة.
بحلول عام 1934، وُجد في وديان ويلز أكثر من مئة مكتبة مخصصة لعمّال المناجم، تضمّ الواحدة منها نحو ثلاثة آلاف مجلد في المتوسط. أما "معهد تريديجار للعمال"، فقد احتوى على مكتبة متداولة تزخر بمئة ألف كتاب. لم تكن القراءة لديهم ترفًا، ولا تعبيرًا هشًّا عن الذات، بل مشروعًا واعيًا لإتقان النفس، ولصياغة ذاتٍ تعرف قيمتها.
كما قال فريدريك دوغلاس، العبد السابق والمربي: "بمجرد أن تتعلّم القراءة، ستكون حرًّا إلى الأبد."
لكننا اليوم نعيش لحظةً مختلفة؛ لا لحظة عداءٍ للقراءة، بل لحظة غموض.
الاهتمام، في جوهره، انعكاس لما نُقدّره. ومشكلتنا العميقة أننا لم نعد نعلم ما الذي يستحق اهتمامنا — إن وُجد أصلًا.
من الطبيعي أن نشعر بالتشتّت حين لا يكون هناك هدف واضح لتركيزنا. يبدو الانشغال بـ"أفضل ما فكّر فيه الإنسان وقاله" نوعًا من الجدية الثقيلة التي لا تتماشى مع إيقاع الزمن السريع. ففي عالمٍ يُنظر فيه إلى التمييز الثقافي بوصفه امتيازًا طبقيًا أو تعبيرًا عن التفوّق الاجتماعي، ما الذي يدفع أحدًا ليقضي ساعاتٍ طويلة من عمره منكبًا على قراءة الكلاسيكيات؟
تبدو تلك الطموحات، في نظر كثيرين، مُتحفية، مُتقادمة. وبدلًا من ذلك، نُشجَّع على استهلاك ترفيهٍ عابر، يُطمئننا ولا يُثيرنا، ويُرضينا دون أن يُطالبنا بشيء. ثقافة تُقدّر الذات كما هي، لا كما يمكن أن تُصبح.
والحقيقة القاسية هي أننا لم نعد نتوقّع — لا من الأطفال، ولا من الطلبة، ولا حتى من أنفسنا — أن نقرأ.
نعيش في ثقافة تُكافح لتحتفي بالقراءة لذاتها، ثقافةٍ فقدت الجرأة على تفضيل كتابٍ على آخر، أو فكرةٍ على أخرى، خشية الوقوع في "التحيّز".
لكن إلقاء اللوم على الهاتف الذكي، أو تيك توك، أو أي تقنية أخرى، ليس فقط خطأً في التقدير، بل كسلٌ وتملّص من المسؤولية. فلطالما كانت التكنولوجيا — في جوهرها — أداةً حيادية، يمكن أن تنشر التشتّت، أو أن تُعمّق المعرفة.
وبالنية، والعزم، والجهد الجماعي، يمكن أن تستعيد التكنولوجيا دورها الأصيل: أن تكون بوابة إلى العمق، لا مجرد منفذ إلى الهروب.
إبداع واللهِ
🤍 كلام واقعي