ترجمة : إقبال عبيد
كتابة : ماريا بوبوفا
عقب تجاوزه عتبة الخمسين بقليل، غرق ليو تولستوي (9 سبتمبر 1828 – 10 نوفمبر 1910) في أزمة روحيّة طاحنة، كادت أن تودي بحياته. كان حينها في ذروة المجد الأدبي، وقد حصد أعظم ثماره: ثروة واسعة، وصحة لا بأس بها، وزوجة أنجبت له أربعة عشر طفلًا، وشهرة رسخت اسمه بين الخالدين. ومع ذلك، تلاشت في داخله بوصلة المعنى، واشتدت غربته عن ذاته، حتى بات قاب قوسين أو أدنى من الانتحار.
وسط هذا الظلام الوجودي، لم يجد تولستوي مهربًا سوى أن يلتمس قبسًا من النور في تراث البشرية الروحي والفلسفي، ساعيًا إلى إجابة للسؤال الذي أنهك الفلاسفة والأنبياء: ما معنى الحياة؟
في عام 1879، وبعد مضي عقد على صدور رائعته "الحرب والسلام"، وعامين فقط على نشر "آنا كارنينا"، وقبل أن يضع خلاصاته الفكرية في كتابه "تقويم الحكمة"، كتب تولستوي اعترافه الجريء والصادم في مؤلفه "الاعتراف"؛ عملٌ ذاتي نادر في صدقه، نافذ في تأمله، يحفر عميقًا في قلب الكارثة الوجودية التي اجتاحت عالمه الداخلي.
لقد واجه تولستوي نفسه دون مواربة، ودوّن خواطره عن الشهرة والمال والكتابة في غير وجهتها النبيلة، ليمنحنا بذلك شهادة إنسان يبحث ــ رغم كل شيء ــ عن حقيقة تستحق أن يُبنى عليها وجوده.
يشبّه تولستوي تطوّر اكتئابه بمرضٍ جسديٍّ خبيث، وهو تشبيهٌ يتقاطع مع ما يُقرّه الطبّ الحديث عن الترابط بين الجسد والنفس. يكتب:
"ثم حدث ما يحدث لكل من يُصاب بمرض داخلي مُميت. في البداية، تظهر علامات تافهة على الوعكة الصحية لا يُعرها المريض اهتمامًا؛ ثم تعاود هذه العلامات الظهور أكثر فأكثر وتندمج في فترة معاناة متواصلة. يزداد الألم، وقبل أن يُلقي المريض نظرة، يصبح ما اعتبره مجرد وعكة صحية أهم بالنسبة له من أي شيء آخر في العالم – إنه الموت!"
شيئًا فشيئًا، بدأت أعراض الاكتئاب تقتات على كيانه. اختفت لذّته في الكتابة، وتبدّدت تلك المتعة التي كانت يومًا تدفعه للإبداع. خَبَت أحلامه بالشّهرة، وغدت بالنسبة له سرابًا أجوف. حتى البندقية التي اعتاد أن يستخدمها في هواية الصيد، بدأ يتجنبها خشية أن تهمس له فكرة الانتحار في لحظة ضعف.
ولم يكن تولستوي آنذاك يعترف بوجود إله شخصي بالمعنى الديني التقليدي، لكنه بدأ يشعر بأن حياته ليست إلا محاكاة ساخرة، مزحة سوداء وُضعت بعناية ليكتشف من خلالها عبثية المصير، وهشاشة الكينونة، وعبء الوعي: تلك الشعلة التي لا تنطفئ إلا لتكشف الظلام من حولها.
اليوم أو غدًا... سيأتيني المرض أو يخطف من أحبّ، وقد أتى فعلًا في صورٍ شتّى. لن يبقى من الأجساد سوى النتانة، ولن يتردد الدود عن أداء مهمّته بصمت بارد. ستمّحي كل شؤوني، كل ما كافحتُ من أجله، كل ما خلته يومًا ذا شأن. وسينتهي كل شيء بي إلى العدم. فلماذا إذن أتحرّك؟ لماذا أكتب، أو أحب، أو أتنفس؟
كيف يعقل أن يغيب هذا الإدراك عن الإنسان؟ وكيف له أن يستمر في الحياة؟
ذلك هو العجبُ بعينه!
لا أحد يقدر أن يعيش حقًا إلّا إذا كان ثملًا بالحياة، مخدوعًا بسُكْرها. فبمجرّد أن يصحو، ويرى الأمور على حقيقتها، يُدرك أن الحياة ليست إلا خدعة، مهزلة بائسة، لا ذكاء فيها ولا عدالة؛ فقط قسوة صمّاء وغباء مُطبق.
ولو أنني اقتنعت ببساطة أن الحياة لا معنى لها، لتصالحْتُ مع قدري، عشتُه في سكون.
لكن الأمر كان أعقد من ذلك.
لم أكن كالرجل الذي يعيش في غابةٍ ويعلم أنه لا مخرج منها، فيسلّم أمره ويستكين.
بل كنتُ كهاربٍ ضائعٍ، يلهث في الغابة، يدرك أن كل خطوة يخطوها تضلله أكثر، ومع ذلك لا يملك إلا أن يُسرع، يركض بحثًا عن مخرج وهمي، عن أمل ينهار عند كل منعطف.
لقد كان الأمر مُروعًا، كابوسًا يقظًا، ولم أرَ مهربًا منه إلا بالهلاك. تمنيت الموت، لا من حبٍ له، بل من ضيقٍ بهذا الجنون.
ومع كل ذلك، بدأتُ أدرك أن أصل أزمتي لم يكن استثناءً، ولا مرضًا خاصًا بي وحدي. بل كان سؤالًا بدائيًا، يسكن في قلب كلّ إنسان، من الطفل الغرّ إلى الشيخ الحكيم. سؤالٌ بسيط، مخيف في بساطته، لا يمكن للمرء أن يعيش عليه، لكنه لا يستطيع أيضًا أن يتجاهله:
"ما الذي سيترتّب على ما أفعله اليوم، أو غدًا؟ ما الجدوى من حياتي كلّها؟
لماذا أعيش؟ لماذا أتمنّى؟ لماذا أفعل شيئًا أصلاً؟
وهل هناك في حياتي معنى، لا يلتهمه الموت المنتظر؟"
كان هذا هو السؤال الحقيقي. سؤال يُزلزل الروح ولا تملك حياله إلا أن تصمت أو تنهار.
في محاولته الحثيثة للإجابة عن ذلك السؤال البسيط في ظاهره، العميق في جوهره، لجأ تولستوي إلى العلم أولًا، آمِلًا أن يجد عنده نورًا يهتدي به في عتمة الوجود. لكنّ العلم، بدل أن يتصدى للسؤال، التفّ عليه، وراح يطرح أسئلته الخاصة، ثم يجيب عنها بما يتقنه: القياس، والتجريب، والتفصيل.
إلا أن ما كان تولستوي يبحث عنه لم يكن في عالم القياسات، بل في عالم المعنى، في مواجهة اللامحدود. فالعلم، مهما اتسع، يظل محصورًا بإطاره التجريبي، ولا يملك أدوات الخوض في الأبدية.
يكتب تولستوي ساخرًا، ومريرًا:
"كل هذه كلمات بلا معنى؛ ففي عالم اللانهائي لا وجود لمُعقّد أو بسيط، ولا لأفضل أو أسوأ، ولا لمتقدّم أو متأخّر."
ويزيد:
"من يسأل بصدق: كيف أعيش؟ لا يرضى أن يُقال له: ادرس الفضاء اللانهائي، والطفرات اللامتناهية، والذرات التي لا تُحصى، وعندها ستفهم حياتك.
وكذلك لا يرضى العاقل أن يُقال له: تأمل في تاريخ البشرية الذي لا نعلم بدايته ولا منتهاه، ولا نعرف منه إلا ما لا يُرى، وستفهم حياتك."
قبل قرنٍ ونصف من المفارقة التي صاغها الفيزيائي آلان لايتمان بعبقريته، كان تولستوي قد أدرك بوضوح حدود المعرفة العلمية، وأنها، حين تحاول التصدي للأسئلة الكبرى، تتحول من أداة استكشاف إلى عبث فكري:
"العلم التجريبي يبرع في تفسير تسلسل الأسباب والنتائج ضمن الظواهر المادية، لكنه يفقد قيمته بمجرد أن يُسأل عن السبب النهائي.
أما العلم المجرد، فجوهره إدراك معنى الحياة، لكنه يغدو عديم الجدوى إن انشغل بالعواقب والظواهر المتغيرة."
فالنوع الأول من المعرفة يعترف بحدوده، فيقدّم معرفة إيجابية حين ينأى عن الأسئلة المصيرية. أما الثاني، فحين يتمسك بمهمته الأصيلة – البحث عن العلة الغائية للوجود – يبلغ ذروة الإدراك.
وحين ضاق بالعلم، توجّه تولستوي نحو الفلسفة، علّه يجد فيها ما عجزت عنه التجربة. لكنه خرج منها محبطًا:
"الفلسفة لا تُجيب، بل تكتفي بطرح السؤال ذاته. وإذا كانت فلسفة حقيقية، فإن كل جهدها ينحصر في محاولة صياغة السؤال بشكلٍ أوضح."
كان كمن يبحث عن ماءٍ في سراب. لا إجابات، فقط صيغٌ لغوية أكثر تعقيدًا للسؤال نفسه.
وهكذا وجد نفسه في مفارقة أليمة:
"نوعٌ من المعرفة لم يجب عن سؤال الحياة،
ونوعٌ آخر أجاب، لكن بإقرار يأسي، مؤكدًا أن ما توصلتُ إليه لم يكن نتيجة وهم أو خطأ، بل ثمرة تفكيرٍ سليم، يتماشى مع استنتاجات أعظم العقول البشرية."
كانت الفلسفة والعلم معًا، كمرآتين عاكستين، تُريانه قبح الحقيقة من دون أن تمنحاه وسيلة لتجاوزها.
وحين هدأ صخَب روحه، وأفرغ حيرته في الكلمات، وجد تولستوي جوابًا لسؤاله المؤرق:
"لماذا يوجد كل ما هو موجود؟ ولماذا أنا موجود؟"
فأجاب، ببساطة جارحة:
"لأنه موجود."
كانت إجابة تُجاري ما سيقوله جون كيج بعد قرن: "لا سبب. نحن هنا فقط."
وتتماهى مع رؤية جورج لوكاس: "لا يوجد سبب. نحن موجودون. والحياة تتجاوز المنطق."
تلك الاستجابات لم تكن فلسفات بالمعنى الأكاديمي، بل ترانيم تأملية، قريبة في روحها من البوذية، حيث الوجود لا يحتاج إلى تبرير، بل إلى تسليم.
وهكذا، لجأ تولستوي أخيرًا إلى الروحانية، لا كخيار فلسفي، بل كملاذ أخير لرجل يوشك على الغرق.
بدأ يسأل من حوله: كيف يتعايش هؤلاء مع هذا السؤال الساحق؟ كيف يُمكِن لإنسان أن يواصل الحياة وهو يعرف أنها لا معنى لها؟
فوجد أن الناس - كما رآهم في دائرته الاجتماعية - يلجؤون إلى أربع استراتيجيات للتعامل مع هذا العبء الوجودي. لكنها، في نظره، لم تكن إلا حلولًا زائفة، لا تداوي الألم، بل تُمكِّن صاحبه من التكيف معه دون تجاوزه.
الأولى: الجهل.
العيش في غفلة، إنكار أن للحياة جانبًا مظلمًا، تجاهل أن وجودنا قد يكون عبثًا صرفًا.
كتب تولستوي:
"لم أتعلم من هؤلاء شيئًا. لا يمكن للمرء أن يتوقف عن معرفة ما يعرفه."
الثانية: مذهب أبيقور.
الاستمتاع بالملذّات قدر المستطاع، طالما أن الموت لم يطرق الباب بعد. هذا ما رأى تولستوي أن كثيرين من حوله يعتنقونه، من دون أن يُدركوا هشاشة موقفهم.
قال:
"هؤلاء الناس يستغلون العسل بينما يتجاهلون التنين والفئران... رفاهيتهم تمنحهم القدرة على التغاضي، وبلادتهم الأخلاقية تسمح لهم بنسيان أن الامتيازات التي ينعمون بها عرضيّة، وأن من صار اليوم سليمان قد يغدو غدًا عبده."
كان يراهم كمن يرقص على جليد هش، يتجاهلون يقين المرض، والشيخوخة، والموت، وكل ما لم يُرِح حتى بوذا نفسه.
الثالثة: القوة.
وهي خيار من يقرر أن يُنهي اللعبة بيده، بعد أن يتبيّن له أنها مهزلة لا تستحق الاستمرار.
إنه طريق الانتحار. قليلون يسلكونه، لكنه شهد ازديادًا مقلقًا بين من عرفهم، لا سيما أولئك الذين بلغوا ذروة نضجهم العقلي، ورفضوا أن تستعبدهم العادات أو تُخدّرهم التسويات.
كتب تولستوي بمرارة:
"بعد أن أدركوا غباء النكتة التي لُعبت عليهم، وفهموا أن الأفضل أن لا يكونوا أصلًا، اختاروا أن يُنهوا هذه المهزلة بأنفسهم. وسائل ذلك كثيرة: حبلٌ، ماءٌ، سكين، أو قطار... وكم تزايد عدد من اختاروا هذا الطريق، لا في شيخوختهم، بل في ذروة شبابهم ونضجهم العقلي."
كانت هذه الخيارات الثلاثة، في نظره، محاولات للهروب من السؤال، لا مواجهته.
المخرج الرابع: الضعف.
أن ترى الحقيقة واضحة كالشمس، ثم تعود عنها، متشبّثًا بالحياة رغم يقينك بعدم جدواها. أن تعرف، في قرار نفسك، أن الموت أرحم، ومع ذلك، لا تملك الجرأة على إنهاء هذا العبث بيدك. هؤلاء الضعفاء لا ينكرون الحقيقة، لكنهم لا يقدرون على مواجهتها.
ينتظرون شيئًا ما... لا يدرون ما هو، لكنهم ينتظرون.
هكذا وصف تولستوي نفسه في هذه المرحلة: يعيش كما عاش سليمان وشوبنهاور. مدركًا تمام الإدراك أن الحياة خدعة سخيفة، ومع ذلك، يستيقظ كل صباح، يغتسل، يرتدي ثيابه، يأكل، يتكلم، ويكتب الكتب.
كان هذا التناقض مزعجًا له إلى درجة القرف. ومع ذلك، بقي فيه، أسيرًا له، متلبّسًا به.
ومع تفاقم الحيرة، بدأ يطرح على نفسه سؤالًا مُفصليًّا:
لماذا لم أنتحر إذًا؟
وما لبث أن أدرك أنّ في داخله صوتًا خافتًا، خفيًّا، لا يزال يشكّ في صدق استنتاجاته، ويطرح "شكًّا غامضًا" حيال عبثية الحياة التي أقرّ بها عقله.
عند تلك العتبة الفاصلة، بدأ تولستوي يشكك في سلطة العقل ذاتها، ودوّن ملاحظته الثاقبة:
"أنا، عقلي، أقررتُ بأن الحياة عبثية. وإذا لم يكن هناك ما هو أسمى من العقل - وهو غير موجود (بحسب زعمي حينها) - فإن العقل يصبح خالق الحياة بالنسبة لي. ولو لم يكن العقل، لما عرفت أن هناك حياة.
فكيف يحقّ للعقل أن يُنكر ما هو ثمرة له؟
لو لم تكن هناك حياة، لما وُجد عقلي أصلًا؛ إذن، العقل ابن الحياة، ومع ذلك ينكر أمه؟! كان في الأمر خللٌ فاضح."
ومن هنا، بدأت الحقيقة تتكشّف له، لا في دهاليز الفلسفة، ولا في نظريات العلم، ولا بين أولئك الذين يتخمون أنفسهم بالملذّات، بل... في بساطة الناس، في أولئك الذين يعيشون بلا تنظير، ولا يحيون عبثًا، رغم أن المنطق الذي يستند إليه في رفض الحياة مألوفٌ لديهم منذ قرون.
كتب تولستوي:
"المنطق الذي يبيّن زيف الحياة لم يكن صعبًا، بل كان مألوفًا لدى البسطاء منذ زمن بعيد.
ومع ذلك، فقد عاشوا، وما زالوا يعيشون.
فكيف يمكن لهم أن يستمروا دون أن ينهاروا أمام هذا الشك؟ كيف يمكن أن تكون الحياة بالنسبة لهم مقبولة، بل ومليئة بالحكمة؟"
ثم أضاف، بدهشة المؤمن الجديد:
"لقد أراني علمي، الذي صدّقته أقوال الحكماء، أن كل ما في هذا العالم - حيًّا كان أو جمادًا - مُرتّبٌ بحكمة فائقة... إلا أنا، أنا الإنسان، موقفي وحده بدا غبيًّا.
أما أولئك البسطاء، الجموع التي لا تعرف شيئًا عن تعقيد الكون، فحياتهم تبدو، في أعينهم، مُرتبة بحكمة عميقة!"
هنا بدأ الانقلاب.
ليس في الحجج، بل في الشعور.
ليس في النظرية، بل في المعايشة.
لقد وجد في الناس البسطاء، بحياتهم اليومية الهادئة، ما لم يجده في مكتبات أوروبا كلها.
ثم خطرت لي فكرة مفاجئة، أشبه بإضاءة خاطفة في عتمة اليقين اليائس:
"وماذا لو كان هناك ما لا أعرفه بعد؟"
أليس هذا ما يفعله الجهل دومًا؟
فالجهل، حين يواجه ما لا يفهمه، لا يقول: "لا أفهم"، بل يعلن بيقين مطلق أن ما لا يفهمه... باطل أو غبي.
لكن الواقع يقول إن الإنسانية كلّها، في جموعها التي لا تُحصى، عاشت وتعيش كما لو كانت تعرف معنى حياتها؛ بل إنها لا تستطيع العيش دون هذا المعنى.
أما أنا، فكنت أصرّ أن الحياة لا معنى لها، وأتذرّع بعجزي عن العيش.
بعد أكثر من قرن، أطلق ستيوارت فايرستاين على هذا التناقض اسم "الجهل الواعي": أن تعترف بحدود معرفتك، لا عن ضعف، بل عن بصيرة.
وهكذا، بدأ تولستوي يرى غشاوة كبريائه بعيون جديدة، ويعيد التفكير في وهم امتلاك الحقيقة:
"في غروري الفكري، كنت أظن أنني، وسليمان، وشوبنهاور، قد طرحنا السؤال الوجودي بدقة لا يرقى إليها شك، حتى بدا لي أنه لا مجال لأي إجابة أخرى.
وظننت أن المليارات من الناس لم يصلوا بعد إلى عمق إدراكنا، فعشت أبحث عن معنى حياتي، من دون أن يخطر لي، ولو لمرة واحدة، أن أسأل:
'لكن ما المعنى الذي وجده هؤلاء المليارات، الذين عاشوا وما زالوا يعيشون؟'"
يعترف تولستوي أن هذا الوهم الفكري لم يكن إلا ضربًا من الجنون، وإن اختلفت عباراته عن ألفاظ الجنون.
وكان هذا الجنون، كما يقول، سِمَة متكررة عندنا - "نحن المتحررون، المتعلمون".
لكنه، بفضل عاطفةٍ فطريةٍ شدّته نحو الكادحين، البسطاء، الصابرين على شقاء الأرض، بدأ يشكّ في افتراضه أنهم "أغبياء"، وبدأ يرى فيهم ما لم يرَه في أصحاب الفكر الرفيع والترف العقلي.
"سواء بسبب هذا الميل الغريزي إليهم، أو بسبب شعوري بأنني لا أعرف شيئًا سوى أنني على شفير شنق نفسي، بدأت أشعر، في أعماقي، أنه إن كنتُ أريد أن أعيش، وأفهم معنى الحياة، فعليّ أن أبحث عنه لا بين أولئك الذين فقدوه ويريدون الموت، بل بين أولئك الذين يصنعون الحياة، ويحملون أثقالها، ويواصلون السير رغم كل شيء."
بدأ يتأمل في وجوه البسطاء: غير المتعلمين، الفقراء، الذين يكدحون بصمت، ويصبرون بلا فلسفات، ويقهرون الحياة بالمعنى.
فرأى فيهم ما لم يجده في الكتب، ولا في المختبرات، ولا في "تقسيماته" الخاصة:
"وجدتُ أن كل هذه المليارات لا تنطبق عليهم أي من تقسيماتي الأربعة.
لا يمكن القول إنهم يجهلون السؤال، لأنهم يعبرون عنه بألسنتهم البسيطة ويجيبون عليه بيقين لا تشوبه حيرة.
ولا يمكن اعتبارهم عبيدًا للملذات، لأن حياتهم ملأى بالحرمان والمشقة لا بالمتع.
ولا يمكن اتهامهم بأنهم يعيشون عبثًا، لأن كل فعل من أفعالهم، حتى موتهم، محكومٌ بمعنى واضح في نظرهم."
ثم يختم تولستوي هذا الفصل الحاسم بكشفٍ موجع:
"لقد أدركتُ أن ما كنت أعتبره 'المعرفة المعقولة' - تلك التي تتفاخر بها العقول الأكاديمية - لا تمنح الحياة معنى، بل تسلبها القدرة على الحياة.
بينما ذلك المعنى الذي تنسبه البشرية البسيطة للحياة، والذي اعتبرته أنا 'زائفًا' و'سخيفًا'، هو وحده الذي مكّنهم من العيش، جيلًا بعد جيل."
راح تولستوي يتأمل في ما سمّاه اللاعقلانية الضرورية للإيمان، ويتساءل: هل كان ما أطلبه من الحياة، ومن الله، ومن الإيمان، هو مجرّد ظلم معرفي؟
هل كنتُ أفرض على الأسرار الأبدية أن تخضع لمحاكم العقل القاصر؟
لقد رأى أن المعرفة التي يقدّمها العلماء والحكماء – تلك المعرفة العقلانية التي تفتخر بدقتها وتناسقها – تنكر معنى الحياة.
أما جموع الناس، البشرية منذ فجر التاريخ، فقد استقبلت هذا المعنى من خلال معرفة من نوع آخر:
معرفة لا عقلانية تُسمى الإيمان.
لكن هذا الإيمان كان، في نظره، غير مقبول.
إلهٌ واحد في ثلاثة أقانيم؟
خلق الكون في ستة أيام؟
ملائكة وشياطين؟
كيف أستطيع أن أقبل هذا كله، وأنا لا أزال أحتفظ بعقلي يقظًا؟
هكذا قال، وهكذا ظلّ يتمزّق.
"كان وضعي بائسًا: أعرف أن طريق العقل لا يؤدي إلا إلى نفي الحياة،
وطريق الإيمان يتطلب نفي العقل –
وإنكار العقل كان عليّ أصعب من إنكار الحياة نفسها."
فبموجب العقل، الحياة شرّ. وبوسع الناس، إذا عرفوا ذلك، أن ينهوا حياتهم.
لكنهم لا يفعلون.
بل يعيشون، ويُحبّون، ويأملون.
وأنا – رغم يقيني بعبث الحياة – كنت أعيش أيضًا.
وفي مواجهة هذا التناقض، بدأ يدرك شيئًا جديدًا:
"لعلّ ما أسميته عقلًا لم يكن عقلانيًا كما ظننت،
ولعلّ ما بدا لي غير عقلاني لم يكن كذلك بالفعل."
هنا بالضبط، بدأت تنكشف أمامه الثغرة العميقة التي تسكن استدلالاته السابقة، والتي كانت أصل كآبته:
لقد كان يطرح سؤالًا وجوديًا غائرًا:
"ما معنى حياتي؟ ما القيمة الدائمة لوجودي الزائل في عالمٍ لامحدود؟"
لكن الإجابات التي راح يبحث عنها كانت تقيس الحياة وفق الزمان والمكان والسببية، أي ضمن نظام لا يصلح أصلًا للإجابة عن سؤال يتجاوز تلك الحدود.
"سألت: ما معنى حياتي خارج الزمان والمكان والسبب؟
فأجبت: لا معنى لها داخل الزمان والمكان والسبب."
أي أنه طرح سؤالًا ميتافيزيقيًا، لكنه حاول أن يجيب عليه بأدوات فيزيائية.
كانت النتيجة الحتمية لهذا الخلط أن يحصل على إجابة لا معنى لها.
"المحدود يفسر المحدود.
واللانهائي لا يُقاس بالمحدود.
والقوة قوة، والمادة مادة، والإرادة إرادة.
أما العدم... فهو لا شيء. وهذا كل ما استطعت أن أصل إليه."
هكذا، انتهت رحلته مع العقل إلى دائرة مغلقة.
لكنّ هذا لم يكن إنكارًا للفلسفة، بل إقرارٌ شريف بحدودها.
"المعرفة الفلسفية لا تنكر، بل تقول بصدق:
’هذا السؤال لا يمكن حله بنا...’
وتترك الإجابة معلقة في الفراغ، بلا حسم، بلا نهاية."
لقد وضع يده أخيرًا على جوهر المأزق الوجودي:
أنك حين تحاول أن تزن الخلود بميزان التراب، لا تحصل على شيء.
أنك حين تسأل عن المطلق بلغة النسبي، لن تجد غير الصمت.
حين تبيّن له هذا الإدراك، أدرك تولستوي أن المعرفة العقلية لم تكن أداةً صالحة للإجابة عن سؤاله.
فكل ما تقدّمه هذه المعرفة، مهما بدت دقيقة أو منطقية، ليس جوابًا، بل إشارة إلى أن السؤال نفسه بحاجة إلى أن يُطرح من جديد – بصيغة تُدخِل علاقةَ المحدود باللانهائي.
ذلك البُعد الذي يتجاهله العقل، ولا تقوم بدونه حياة.
"فهمتُ، أخيرًا، أنه مهما بدت إجابات الإيمان مشوّهة أو غير عقلانية، فإن لها فضيلة جوهرية:
أنها تُضمِّن في كل جواب علاقةً بين الكائن الفاني والوجود السرمدي.
ومن دون هذه العلاقة، لا يمكن لأي إجابة أن تكون ممكنة، فضلًا عن أن تكون مُرضية."
ومن هنا، تحوّل الإيمان عند تولستوي من مشكلة عقلية إلى ضرورة وجودية.
لم يعد يرى فيه خرافة شعبية، بل نوعًا آخر من المعرفة، لا عقلانية، نعم، لكنها تمكّن الإنسان من أن يحيا.
رغم تحفظه الفكري، لم يستطع أن يُنكر هذه الحقيقة:
"ظلّ الإيمان في نظري غير عقلاني، كما كان دائمًا،
لكنني لم أعد أستطيع تجاهل أنه وحده يُعطي إجابةً حقيقية لأسئلة الحياة،
ووحده يجعل الحياة ممكنة."
ثم كتب ما يشبه خلاصة تأمله كله، بكلمات تفيض بالدهشة والنضج:
"مهما كان شكل الإيمان،
فإنه يمنح للوجود الإنساني المحدود معنًى لا نهائيًا،
معنًى لا تُفسده المعاناة، ولا يُلغيه الحرمان، ولا يدمّره الموت."
لكنه، بحذر المفكر، ميّز بين الإيمان والدين، تمامًا كما فعلت لاحقًا الكاتبة فلانري أوكونور، التي فرّقت بين بنية العقيدة، وتجربة الإيمان كقوة داخلية.
وهكذا، كتب تولستوي:
"فهمتُ أن الإيمان ليس مجرد 'دليل على أمور لا تُرى'،
ولا هو وحيٌ مُنزل، ولا علاقة الإنسان بالله،
بل هو معرفةٌ بمعنى الحياة البشرية.
ومن ثمّ، هو القوة التي تمنع الإنسان من تدمير نفسه،
وتدفعه إلى أن يعيش."
ثم أطلق عبارته الأبدية:
"الإيمان... هو قوة الحياة.
فإن عاش الإنسان، فذلك لأنه يؤمن بشيءٍ ما."
"وإن لم يؤمن بأن عليه أن يحيا من أجل شيء، فإنه لن يقدر على الحياة."
فإن لم يكن يرى أو يدرك زيف المحدود، آمن به.
وإن أدرك زيفه، وجب أن يؤمن بشيء يتجاوز هذا الزيف: باللانهائي.
ثم يختم خلاصة رؤيته بجوهر السؤال الوجودي الذي يطارد كل كائن بشري:
"لكي يستطيع الإنسان أن يحيا،
يجب عليه إمّا ألا يرى اللانهائي،
أو أن يُعطى له تفسيرٌ ومعنًى يربط بين وجوده المحدود... وذلك اللامحدود الذي لا مهرب منه."
ومع مضيّه في دروب الإيمان، بدأ تولستوي يرى التمايز الواضح بين الإيمان الخالص الذي يُنير قلوب البسطاء، وبين الدين المؤسسي الذي تمارسه الكنيسة، خاصة حين يمتزج بنفاق الطبقات الغنية.
لقد وجد أن ما يُبشّر به رجال الدين لا ينسجم مع ما يُعلنه الإيمان البسيط.
فبينما يتحدثون عن التواضع والمحبة، يعيشون في ترف وغطرسة؛
وبينما يُبشّرون بالخلاص، يُهمّشون الفقراء، ويبرّرون الظلم باسم النظام.
في المقابل، كانت حياة الفلاحين الذين طالما استهان بهم النبلاء، تكشف لتولستوي عن خلاصٍ هادئ، صامت، خالٍ من الادّعاء، فيه حكمة تشبه فلسفة القبول البوذية، وفيه رباط خفيّ بين المحدود واللامتناهي.
كتب:
"على عكس ما رأيته في حلقتنا، حيث تُقضى الحياة في كسلٍ وسخطٍ ولهو،
رأيت أن هؤلاء الفلاحين يعيشون في كدح متواصل، ومع ذلك هم راضون."
لم يكن رضاهم سذاجة، بل نابعًا من إدراكٍ عميق لحقيقة الحياة.
فهم لا يعارضون القدر، لا يُنكرون الموت، ولا يستنكرون الحزن؛ بل يتقبّلونه كما هو، بثبات هادئ، وبقناعةٍ أن كل شيء، في جوهره، على ما يرام.
"نحن، كلما ازددنا معرفةً، قلّ فهمنا.
نحن نرى في المعاناة مفارقة شريرة، وفي الموت إهانةً لا تليق بالحياة.
أما هم، فيواجهون الموت والمعاناة... لا بسخط، بل أحيانًا بفرح."
وما بدا لتولستوي أكثر إدهاشًا، هو أن هؤلاء البسطاء لم يتفلسفوا في معنى الحياة، لكنهم عاشوه.
لم يرفعوا شعارات، لكن أفعالهم كانت تجسيدًا يوميًا لمعنى الحياة:
في العمل، في الصبر، في التواضع، وفي المساواة أمام الألم والموت.
"على النقيض من جهلي المتكبّر،
كانوا يعرفون معنى الحياة والموت،
وكانوا يعملون ويصبرون ويتألمون... لا يرون في ذلك غرورًا، بل خيرًا."
وهكذا، أدرك تولستوي أن المعنى لا يُنتزع من الكتب، بل يُعاش في حياةٍ حقيقية، فيها العرق والتعب، وفيها أيضًا راحة الضمير وطمأنينة الروح.
وكتب:
"أدركتُ أنني إن أردتُ فهم الحياة ومعناها،
فعليّ ألا أعيش حياةً طفيلية،
بل أن أنخرط في حياةٍ حقيقية،
وأتحقق من المعنى الذي منحته الإنسانية الحقيقية للعيش...
وأندمج في تلك الحياة."
تمت
رائع جدا
مرة شكرا على الترجمة
حقيقي ادعممك