كتابة : مات ريك
ترجمة : إقبال عبيد
حين رحل ميلان كونديرا عام ٢٠٢٣، بدا أن نعيه يطوي معه صفحة روايته الأشهر «خفة الكائن التي لا تُطاق»، تلك الرواية التي جعلت اسمه مألوفًا في ذاكرة الأدب العالمي. غير أنّ عامين فقط مضيا حتى جاءت خاتمة غير متوقّعة، إذ أطلّ كتاب صغير بعنوان «٨٩ كلمة تتبعها براغ: قصيدة تختفي»، وقد تُرجم الآن إلى الإنجليزية للمرة الأولى.
يجمع هذا المجلّد بين مقالتين قصيرتين نُشرتا للمرة الأولى في المجلة الفكرية الفرنسية «لو ديبات» خلال ثمانينيات القرن الماضي: الأولى بعنوان «٨٩ كلمة»، وهي أقرب إلى قاموس شخصي يفتح نافذة على عالم كونديرا الداخلي، والثانية «براغ: قصيدة تختفي»، بترجمة مات ريك.
يختصر هذان النصّان مجمل انشغالات كونديرا التي رافقته على امتداد مسيرته: هشاشة اللغة، ومرارة المنفى، وسخرية الوجود الإنساني. ومع ذلك، فإن هذا التركيز المكثّف في أقل من مئة صفحة، يُقدّم صورة ناضجة ومصفّاة لتأملاته الأخيرة في معنى الكتابة والانتماء والغياب.
تفتتح المقالة الأولى على إيقاع الغضب، غضبٍ هادئ في ظاهره، عارمٍ في جوهره.
بنبرةٍ يتناوب فيها السخرية والمرارة، يستعيد كونديرا ما لحق بأعماله من تشويهاتٍ على أيدي مترجمين تجرّؤوا على إعادة ترتيب جمله، واقتطاع استطراداته، بل وإعادة كتابة أسلوبه نفسه كما لو كان مادة خامًا قابلة لإعادة التشكيل.
يروي، بتهكمٍ جافٍّ لا يخلو من العبث، حادثة تكاد تختصر مأساته مع الترجمة:
«مترجمي لم يكن يعرف كلمةً تشيكية واحدة. سألته: كيف ترجمتها إذن؟ فقال: بقلبي».
ومن هذا العبث اللغوي تولد فكرة المقالة ذاتها: قائمة من تسعٍ وثمانين كلمة — كلمات «تعلّق بها، كلمات يحبّها» — تتخذ كلٌّ منها هيئةَ بوّابةٍ صغيرة إلى عقل الكاتب، ومرآةً لأشجانه الخفية مع اللغة، التي كانت وطنه الأخير.
تتأرجح المقالات بين مفاهيم كبرى كالـ«مطلق» و«المسار» و«السخرية» و«الكيتش». بعضها يشبه ومضاتٍ فكريةً مكثّفة، تبرق بجمالها مثل شذرات من تأملٍ عميق:
«الجمال: آخر انتصارٍ ممكن لإنسانٍ فقد الأمل.
الجمال في الفن: النور المنبعث ببراعةٍ من المجهول».
وبعضها الآخر يتخذ هيئة أقوالٍ أخلاقيةٍ مستترةٍ داخل معجمٍ شخصيّ، كأنها شيفراتٌ تُخفي تحت سطحها فلسفة الكاتب. يكتب كونديرا:
«السخرية ليست نزعةً شخصيةً لدى هذا الكاتب أو ذاك، بل هي جوهرُ الرواية كشكلٍ فني».
ولا يخلو هذا المعجم من لحظاتٍ تهكميةٍ لاذعة، يضحك فيها من العالم كما يضحك من نفسه، كما في قوله:
«جامدةٌ ومُلتصقةٌ بالوجه؛ علامةٌ على شرٍّ خارق».
وكان يقصد بذلك — ببساطةٍ ساخرة — الابتسامة.
وهكذا تتكوّن أمام القارئ سيرةٌ ذاتيةٌ مُصغّرة، كُتبت لا بالحوادث بل بالكلمات، لكاتبٍ إنسانيٍّ منفًى يراقب اللغة كما يراقب المنفى ذاته، يُقلّب كلَّ حرفٍ كما لو كان قلبًا نابضًا بذاكرته.
وإن كانت «٨٩ كلمة» تنظر إلى اللغة من داخلها، تفكّك نسيجها وتعيد اكتشافها ككائنٍ حيٍّ يتنفّس في ذهن الكاتب، فإن «براغ: قصيدة تختفي» تتوجّه إلى الخارج، إلى العالم الذي غادره كونديرا قسرًا حين نُفي من تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٧٥ على يد السلطة الشيوعية. إنها مقالة رثائية شفافة، تُشبه رسالة حبٍّ أُرسلت إلى مدينةٍ لم تعد موجودة إلا في الذاكرة، وقد كُتبت قبل «٨٩ كلمة» بخمس سنوات، كأنها تمهيدٌ حزين لتلك المعركة اللاحقة مع اللغة والمنفى.
يصف كونديرا براغ بوصفها مدينة التناقضات، «عاصمة السحر»، التي تخرج منها كوابيس فرانز كافكا وألحان ليو جاناتشيك العظيمة من الأزقّة ذاتها المرصوفة بالحصى. إنها المدينة التي تتجاور فيها القسوة والخيال، واليأس والنور. يرى فيها كونديرا صورةً مصغّرةً لمأزق أوروبا الوسطى نفسها: حضارةٌ تتأرجح بين إمبراطوريتين، محكومةٌ بأن تشهد اختفاءها وهي بعدُ حية.
تتكوّن هذه المقالات، حين تُقرأ مجتمعة، كفسيفساءٍ من التأملات الاستعادية، تُجسّد فلسفة ميلان كونديرا في أنقى صورها، وتكشف ملامح رؤيته لتاريخ أوروبا — ذلك التاريخ الذي يتكرر فيه القمع، وتتناوب عليه الإمبراطوريات الصاعدة، كما لو أنه قدرٌ لا فكاك منه.
تتبدّى خطوط فكره هنا واضحةً كالنقوش القديمة: استبصارٌ حادٌّ بطبيعة السلطة، وسخريةٌ هادئة من جدّية الإيديولوجيات، وإيمانٌ راسخ بقدرة الإنسان على النجاة بالفكر والضحك.
ولعل أكثر ما يثير الدهشة، بل وربما النقد، هو مقدار ما ظلّ العالم على حاله منذ كتب تلك المقالات قبل عقودٍ طويلة.
ومع ذلك، فإن تأملات كونديرا لا تُغرق القارئ في التشاؤم، بل تفيض أملًا ودفئًا. فهو يُذكّرنا بأنّ الأمم الصغيرة، مهما بدا ضعفها، تحمل في طيّاتها عبقريةً خفيّة قادرة على اختراق غطرسة القوى العظمى.
«بفكاهتها تآكلت أهوالُ الجِدّية الإيديولوجية، وبواقعيتها صمدت أمام أعظم القوى الاختزالية التي أطلقها التاريخ».
إنه احتفاءٌ صادقٌ بمرونة الثقافة الإنسانية حين تنبثق من الهامش، وبقوة الفكر حين يواجه القمع لا بالسلاح، بل بالخيال.
في عصرٍ يهيمن عليه الذكاءُ الاصطناعي وتعمّه موجاتُ التضليل الإعلامي — وهما قوتان تتناوبان على تسطيح اللغة وتشويه معناها — تزداد يقظةُ كونديرا تجاه الكلمة سحرًا وتأثيرًا.
في زمنٍ صار فيه الكلام سلعةً تُعاد صياغتها على مقاس الخوارزميات، ينهض كونديرا من بين صفحاته كمن يذكّرنا بأن اللغة كائنٌ أخلاقيّ، لا أداة.
وهكذا، يبدو المهاجرُ الذي ناح يومًا على خيانة لغته الأم وقد بلغ أخيرًا نوعًا من المصالحة الصامتة مع الكلمات؛ سلامٌ ناضجٌ بين الكاتب واللغة، بين المنفى والبيت.


