لعنة كافكا، ورحمة موراكامي: حكاية سامسا وإنسانيتهما
ما معنى أن تكون إنسانًا حقًا؟
لعنة كافكا، ورحمة موراكامي: حكاية سامسا وإنسانيتهما
ترجمة : إقبال عبيد
كتابة : ستيلا دي
يؤكد كلٌّ من كافكا وموراكامي وكراسناهوركاي، على اختلاف أساليبهم، أنّ الاغتراب ليس خاتمة الوجود الإنساني، بل هو الفضاء الذي ينبغي أن نعيد ضمنه تخيّل معنى الإنسانية ذاتها.
فحين فاز الكاتب المجري لازلو كراسناهوركاي بجائزة نوبل للآداب هذا العام، كان ذلك بمثابة تذكيرٍ بمدى حضور أثر فرانز كافكا — المؤرخ الأعمق للغربة — في الوعي الأدبي المعاصر. هذا الإرث الكافكاوي في تمثيل الاغتراب يجد صدى أكثر رهبةً بعد مرور قرن من الزمان في رواية هاروكي موراكامي «سامسا عاشقًا» (2013)، التي شكّلت تحيةً واعية لرائعة كافكا «المسخ» (1915).
في «المسخ»، يستيقظ غريغور سامسا ذات صباح ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة. تنهال عليه قسوة العالم: تنفر منه أسرته، ويتقزّز منه صاحب عمله، ويشهد هو بألمٍ تلاشي إنسانيته أمام عينيه. عالم كافكا لا يمنح أي عزاء، سوى خنقةٍ بطيئةٍ لرجلٍ عاديّ سحقته لامبالاة المحيطين به. لقد أصبح ذلك العالم نموذجًا للاغتراب في القرن العشرين — حين يغدو الإنسان غريبًا عن المجتمع، بل وعن ذاته أيضًا.
أمّا موراكامي، فبعد نحو مئة عام، يقلب الحكاية رأسًا على عقب. في روايته «سامسا عاشقًا»، يستيقظ سامسا هذه المرة لا كحشرةٍ، بل كإنسانٍ؛ عارٍ، هشّ، ومذعور. لا يفهم هذا الجسد الجديد الغريب، العاري من القشرة الواقية التي اعتادها، ولا يجد فيه سوى الارتباك والخوف. كل حركةٍ تبدو محاولةً لتعلّم البشرية من جديد: المشي، ارتداء الملابس، فتح الباب. العالم المحيط به خاوٍ — منزل فارغ في مدينة مجهولة. وفي خضم هذا الفراغ، تظهر فتاةٌ حدباء جاءت لإصلاح شيءٍ مكسور في المسكن المهجور. في لقائهما القصير والمتردد، يرتجف في داخله شعور إنسانيّ للمرة الأولى — ربما هو الحب، أو شيء يشبهه.
يث جرّد كافكا الإنسان من إنسانيته، أعادها موراكامي إليه — لا بوصفها استعادةً لما فُقد، بل باعتبارها كشفًا مؤلمًا لما يعنيه أن تكون إنسانًا. انقلبت المعادلة: تحوّلت الحشرة إلى بشر، غير أن مأزق الانتماء ظلّ قائمًا. التحوّل الذي مثّل لدى كافكا حكمًا بالإدانة، يصبح في رواية موراكامي تجربةً لإعادة الاكتشاف. فأن تعود إنسانًا، يعني أن تختبر الارتباك، والخجل، والحنين، وأن تستيقظ على وجع الوعي التامّ بالذات والعالم.
الفتاة الحدباء تمثّل محور السرد ومركز الجاذبية الإنسانية في القصة. إنها الصورة الممكنة لغريغور لو امتدّ به العمر بعد «التحوّل» — إنسانة مثقلة بقسوة العالم، مدركة لنظرة الآخرين، لكنها تمضي بكرامة صلبة وهدوء حقيقي. ومع ذلك، لا يرى غريغور في تشوّهها ما يثير النفور؛ ففي عالم موراكامي، يتهاوى معيار الجمال المادي الذي كان في عالم كافكا سببًا للازدراء والعزلة. للمرة الأولى منذ يقظته، يتجاوز سامسا الجسد — جسده وجسدها — ليرى ما وراء المظهر. وفي هذا الاعتراف بالضعف والعاطفة، يقدّم موراكامي تعريفًا جديدًا للإنسانية: ليست جمالًا ولا يقينًا، بل قدرة على الحنان رغم الانكسار.
أما براغ موراكامي، فهي ليست براغ كافكا الخانقة، مدينة الذنب والبيروقراطية، بل فضاءٌ آخر لما بعد الحرب وما بعد الحداثة، حيث تُصبح الرقة نوعًا من التمرّد. يكتب موراكامي في زمنٍ تحوّل فيه الاغتراب إلى تجربة داخلية؛ إذ لم يعد يُفرض من الخارج، بل ينبع من عمق الذات. يعيش أبطاله في عالمٍ وفيرٍ ماديًا، لكنه مجوّف وجدانيًا. وحدتهم ليست قسرية، بل متماهية مع إيقاع الحياة الحديثة — هدوءٌ منضبط، لكنه مُعقّم من المشاعر.
لعنة كافكا، رحمة موراكامي
يلتقي كافكا وموراكامي عند السؤال ذاته، لكن من ضفّتين متقابلتين: ما معنى أن تكون إنسانًا في عالمٍ لم يعد يعرفنا، أو حين نعجز نحن عن التعرّف إلى ذواتنا؟ عند كافكا، يأتي الجواب صامتًا — جسدٌ يذبل في عزلةٍ خانقة، موت بطيء في غرفة مغلقة لا يسمعه أحد. أما عند موراكامي، فالجواب أكثر ترددًا، لكنه مشوب بالأمل: غريغور لا يفهم الحب، لكنه يُساق إليه دون وعي، كما لو أن الغريزة البشرية تبحث عن إنقاذها الأخير في الحنين ذاته الذي يُعذّبها.
في عالم موراكامي، تحوّلت مظالم كافكا القديمة — سلطة المال، قسوة العائلة، وطغيان الواجب — إلى أشكالٍ أكثر خفاءً من الاغتراب، تتسلل إلى الهوية نفسها. لم يعد العفن خارج الجسد، بل صار يسكن أعماقه. ومع ذلك، فإن الارتباك الذي يعتري سامسا أمام الفتاة الحدباء ينبض كخيطٍ رفيعٍ من الفداء؛ إشارةٌ إلى أنّ القلب البشري، مهما أثخنته الجراح، لا يزال قادرًا على الخفقان.
بالنسبة لموراكامي، لا يمثّل الحب خلاصًا بقدر ما هو تجربة في الهشاشة. إنه شعور غريب، ناقص، لا اسم له، لكنه الباب الوحيد نحو الإحساس بالحياة. ومن خلال هذا الارتباك العاطفي، يبدأ سامسا في إدراك وجوده من جديد. لقد كانت الحشرة في زمن كافكا رمزًا للغربة والاختلاف، أمّا الإنسان في زمن موراكامي، فقد أصبح هو الغريب، التائه وسط ذاته، العاجز عن فهم مشاعره أو احتوائها.
لكن، ما معنى أن تكون إنسانًا حقًا؟
في روايات لازلو كراسناهوركاي، يتحوّل هذا السؤال إلى طوفانٍ لغوي، محاولةٍ يائسة للإبصار قبل أن ينهار العالم. أمّا عند كافكا وموراكامي، فيتجلّى البحث ذاته في صورٍ أكثر سكونًا: عزلةُ غرفة، نظرةٌ عابرة بين غريبين، أو عبثيةُ أن تستيقظ ذات صباح لتجد أنك أصبحت كائنًا آخر.
يُجمع الكُتّاب الثلاثة، رغم اختلاف مناهجهم، على أن الاغتراب لا يُشكّل نهاية الوجود الإنساني، بل هو الحيّز الذي ينبغي أن نعيد فيه تخيّل معنى الإنسانية نفسها — تلك اللحظة التي، حين نتوه فيها عن ذواتنا، نكتشف جوهر الإنسان من جديد.



كأن الاغتراب هنا ليس تجربة داخل الذات فقط، بل لحظة يتعرّى فيها النظام كله: المعنى، واليقين، والصورة التي نسبغها على الإنسان. طرحكِ يشير إلى فكرة جوهرية: أننا لا نعرف أنفسنا حين نتغيّر، بل حين نكتشف أن العالم لم يكن مستعدًا لرؤيتنا على حقيقتنا
مقالات غنية بالمعرفة
أنا من عشاق الفلسفة