ما هو القلق لدى سورين كيركيغارد؟
ترجمة : إقبال عبيد
تُظهِر فلسفة سورين كيركيغارد أن الكينونة الإنسانية تُعتبر تداخلًا معقدًا بين ميول متباينة ومتناقضة. هذا الغموض الجذري الذي يتخلل الحياة يُولّد شعورًا عميقًا من القلق الوجودي.
يُعد كتابا "مفهوم القلق" (1844) و"المرض حتى الموت" (1849) من أبرز مؤلفات الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد في مجال النفس الإنسانية. في رؤيته العميقة، يتشابك علم النفس بصورة وثيقة مع علم الإنسان بوصفه روحًا يعي وجوده ويتطور. في رحاب هذين الكتابين، تبرز مفاهيم مركزية مثل القلق واليأس، حيث يواجه كل إنسان أصيل تحديات القلق وثقل عبء الحرية وإمكاناتها اللامحدودة. ومن بين السبل التي نقع بها في شباك اليأس هو الهروب من مواجهته، مما يزيد من عمق الغوص في ظلمات الوجود.
الشخصية الفلسفية لسورين كيركيغارد
يصعب استيعاب أفكار كيركيغارد دون الإشارة إلى جوانب من حياته الشخصية، حتى وإن كانت مختصرة للغاية. وُلد كيركيغارد في عام 1813 بكوبنهاغن، عاصمة الدنمارك، حيث كانت تأثيرات تدين والده واضحة منذ اللحظات الأولى من حياته. في فترة من الفترات، تابع دراسته في معهد رعوي بهدف الانخراط في سلك الكهنوت، ووعظ في كنائس كوبنهاغن، لكن لم يُمنح لقب الكاهن في النهاية. ولعل سنوات شبابه كانت مليئة بتجارب لذيذة ولكنها بغيضة في بعض الأحيان. ورغم ذلك، ظل كيركيغارد كاتبًا يحمل في طياته روحًا دينية، حيث تكتسب مفاهيم مثل القلق واليأس معانٍ تتجاوز مجرد الكتابة، وتُجسد عمق التجربة الروحية.
كان كيركيغارد شخصيةً تكتنفها الكآبة والظلام. اعتقد، كما أشار إليه والده، أن عائلته محكومة بلعنة إلهية، وأن مسيرتهم في الحياة مشوبة بـ"ظل الموت" الذي يرافقهم. كان لديه أسبابٌ وجيهة للتسليم بهذه اللعنة: فقد خمسة من إخوته، فضلاً عن والدته. ومن هنا، تراودت إلى ذهن كيركيغارد فكرة أنه لن يتجاوز عامه الرابع والثلاثين (ريالي وأنتيسيري، ٢٠٠٨، ص ٣٥٦). ورغم ما قد يتمتع به من ثراء مادي، إلا أن صفحات يومياته تعكس شعوراً عميقاً بالعزلة والافتقار إلى الإرشاد، وكأن قلبه غمرته سحابة من الكآبة. وفي إحدى مدوناته، كتب: "لقد عدت للتو من حفلة كنت فيها روح المكان وحيويته (...) ضحك الجميع وأبدوا إعجابهم بي، لكنني غادرت (...) وأردت أن أطلق النار على نفسي" (هاناي، ١٩٩٣، ص ٤).
من المحطات البارزة في مسيرته الذاتية كانت خطوبته بريجين أولسن عام ١٨٤٠، حين كانت في ريعان الشباب بعمر الثمانية عشر عامًا. غير أن هذه الرابطة لم تدم طويلًا، إذ تم إنهاء الخطوبة سريعًا. ووفقًا لفلسفة كيركيغارد، فإن من يسعى إلى تحقيق مُثُل الحياة المسيحية يجد نفسه في صراع دائم؛ إذ لا يمكنه أن يحيا حياة هادئة وهو متزوج. وقد أدرك بعمق أنه لا يستطيع أن يجسد دور الزوج والأب، نظرًا لطبيعته الكئيبة والمتقلبة (ليبيت وإيفانز، ٢٠٢٣). أما السنوات التي تلت تلك الخطوبة غير الموفقة، فقد كانت غنية بالإنجازات الأدبية لكيركيغارد، حيث أبدع في كتابة "إما/أو" (١٨٤٣)، و"التكرار، والخوف والارتعاش" (١٨٤٣)، و"مفهوم القلق" (١٨٤٤)، والتي تعكس جميعها عمق هذه المرحلة من حياته.
كتب كيركيغارد تحت مجموعة متنوعة من الأسماء المستعارة، بجانب اسمه الحقيقي. ومن بين هذه الأسماء نجد: فيكتور إيميريتا، ويوهانس دي سيلينتيو، وفيجيليوس هاوفنيينسيس، وأنتي-كليمكوس، بالإضافة إلى العديد من الأسماء الأخرى. كان كيركيغارد حريصًا على التأكيد على أهمية هذه الأسماء المستعارة، مما جعل العديد من الباحثين المعاصرين يتبنونها في تحليلاتهم لأعماله. وقد يذهب بعضهم إلى القول بأن بعض هذه الأسماء، مثل "Anti-Climacus"، تعكس أفكار كيركيغارد بصورة أعمق وأكثر دقة.ينبغي لنا أن نتأمل في الأسباب التي دفعت كيركيغارد إلى اعتماد الأسماء المستعارة ومنحها هذه الأهمية البالغة. يبدو أن هذه الأسماء المستعارة تجسد مجموعة من وجهات النظر أو الأصوات الحياتية المتنوعة، حيث تُميز بين المراحل "الجمالية" و"الأخلاقية" و"الدينية"، متجاهلةً التقسيمات الفرعية الدالة (ليبيت وإيفانز، ٢٠٢٣). بوجه عام، يرتبط المجال الجمالي بالشعور باللذة، سواء كانت جسدية أو فكرية، في حين يركز المجال الأخلاقي على الالتزام بالمعايير الاجتماعية وتبنيها، بينما يتميز المجال الديني بالعمق الإيماني. وفقًا لليبيت وإيفانز (٢٠٢٣)، يمكن اعتبار هذه المجالات كوجهات نظر مختلفة حول ما يُضفي قيمة على الحياة البشرية.
بدلاً من الانغماس في تجريدات نظرية تتعلق بمجالات الحياة، كان سورين كيركيغارد أكثر اهتمامًا بتجسيد تلك المجالات؛ ومن هنا جاءت استخدامه للأسماء المستعارة. فالفهم النظري وحده لا يكفي، إذ يتطلب كل جانب من جوانب الحياة تجسيدًا ملموسًا في الوجود - حتى وإن كان ذلك في سياق أدبي. وكانت هذه أيضًا وسيلة للابتعاد عن النهج التجريدي على نمط هيغل، الذي كان يركز أكثر على الفكرة العامة للإنسانية بدلاً من الأفراد الحقيقيين (ريالي وأنتيسييري، ٢٠٠٨، ص ٣٦١). في مؤلفيه "مفهوم القلق" (١٨٤٤) و"المرض حتى الموت" (١٨٤٩)، يتناول كيركيغارد مسألة دلالة أن يصبح الفرد شخصًا، وكيف يمكن للمرء أن يختبر الفشل كإنسان، أي كيف يمكن أن تضيع الحياة. في العمل الأخير، يبدأ كيركيغارد - كما فعل أنتي كليماكوس - بكتابة أن الذات (سيلفيت) تعكس توليفة معقدة:
"الإنسان هو مزيج معقد من اللامحدود والمحدود، من العابر والدائم، من الحرية القابلة للاختيار والضرورات التي لا مفر منها، هو ببساطة، تجسيد لهذه التوليفة الفريدة."
يتجلى تشابه مع رؤية هيغل الجدلية للذات الإنسانية، غير أن كيركيغارد ينظر إلى "التوليف" كعملية دائمة تستمر حتى آخر أنفاس الحياة. فالذات تظل في حالة عدم اكتمال، والإنسان يُعتبر مشروعًا غير منجز. هناك صراع دائم بين اللانهائي والمتناهي، وبين الزمني والأبدي، وبين الإمكانية والضرورة، ومن رحم هذه التوترات ينبثق القلق. لذا، يرى الفيلسوف واللاهوتي الدنماركي أن "الذات تتشكل كتوليفة من ميول متعارضة (...) ومع ذلك، فإن الروح (الإرادة) هي القوة التي تجمعها" (مولين، ١٩٨١، ص ٤٧).
يجسد التباين بين المحدود واللامتناهي قدرة الإنسان الفائقة على تخيل عوالم متنوعة (اللامتناهي) من جهة، وإدراك جوهر العالم الواقعي (المحدود) من جهة أخرى. إن الانغماس في فضاء اللامتناهي وحده يقود إلى عوالم من الخيال والأوهام. يدور محور ثنائية الإمكانية والضرورة حول تساؤل أساسي: "كيف أوجه حياتي؟". إنه تجسيد مُعزز للتوتر المستمر بين اللانهائي والمحدود، مُستهدِفًا الفرد في صميم تجربته. وفي هذه السياق، فإن التركيز على الإمكانية فقط يمثل تصورًا لنسخ متعددة من الهوية بعيدًا عن الحدود الجوهرية. بينما تُجسد الضرورة جوانبًا لا نملك عنها السيطرة (أو نملك السيطرة عليها جزئياً فقط)، مثل أصلنا، بيئتنا، طولنا، وغيرها. (واتكين، ٢٠٠١، ص ٢٣١).
وأخيرًا، إن التوتر الناتج عن البعد الزماني والأبدي يتبع نفس الأنماط التي تتسم بها التوترات الأخرى، ولكن مع اختلاف بسيط: فعند استكشاف آفاق ما يمكنني أن أصبح عليه، يظل السؤال الأهم: من الذي يجب أن أكون؟ إنها قضية تحمل في طياتها أبعادًا أخلاقية عميقة. هناك العديد من السبل التي قد تفضي بفشل الإنسان في اكتشاف ذاته الحقيقية. النقطة الجوهرية التي يجب التذكّر بها عند التأمل في هذه التوترات هي أنه لا يمكن للفرد أن يستشرف مسبقًا أي من إمكانيات الذات هي التي تعكس الحقيقة، وبالتالي يمكن تحقيقها، وهذا ما يجعلها مصدرًا للقلق (Angest). الحياة تكتنفها غموض شديد، مما يمنع وضع قواعد شاملة تحسم الأمور. سيكون على الشخص الأصيل (الشخص الحر) مواجهة مشاعر القلق والحفاظ على تفرده من خلال روح الإبداع والحرية.
يُعتبر القلق في نظر العديد من العلماء تجسيدًا للتوتر الذي ينشأ بين الوعي الذاتي والبيولوجيا، أو بين البيولوجيا والحياة الروحية (Watkin، 2001، ص 16). ومع ذلك، فإن هذا التوتر يتجاوز حدود العلم البيولوجي ليشمل كافة الأمور التي تفوق سيطرة الفرد. في حقيقة الأمر، لا يُمكن التغلب على القلق، بل يجب مواجهته بشجاعة. في خضم حالة عدم اليقين الناتجة عن الصراع بين الممكن والضروري، تُعتبر القفزة نحو العمل هي السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق. كما يُشير مولين إلى ذلك بقوله: "الأمر كله يتلخص في فعل إرادي؛ قفزة، إن لم تكن في الظلام، فعلى الأقل عند الغسق" (1981، ص 50). ويتصل القلق أيضًا بمفهوم المسؤولية؛ فحرية الفرد تعني تحمل مسؤولية أفعاله، ومسؤولية اتخاذ تلك القفزة الجريئة نحو المجهول. باختصار، يُعد القلق تجسيدًا لإمكانية الحرية الإنسانية. وعند التطرق إلى موضوع القلق الوجودي، لا يمكن تجاهل لوحة إدوارد مونش "الصرخة"، التي تُجسد صورة إنسان مُرتعِد، يعيش تجربة وعي عميقة بقلقه عند مفترق طرق بين الممكن والضروري. إن القلق الوجودي هو في جوهره "إمكانية الإمكانية". وفي الحقيقة، ليس من الخطأ الاعتقاد بأن لأفكار كيركيغارد تأثيرًا عميقًا على أعمال مونش (ستيوارت، 2016).
أمراض الذات: اليأس
لقد أشرنا إلى أن القلق الوجودي هو عنصر أساسي في نسيج الحياة الإنسانية الأصيلة. وهذا يعني أنه لا يمكن الفكاك من هذا القلق دون أن نفقد جوهر الذات في تلك المعركة. إذا لم يقدم الفرد على مواجهة قلقه، بل لجأ إلى التجاهل أو الهروب، سيجد نفسه غارقًا في اليأس (Fortvivlelse). كما يعبر هاناي عن ذلك قائلاً: "اليأس هو حالة مرضية بطبيعتها (...) تعجز فيها الذات عن استغلال الإمكانيات التعليمية الفريدة التي يوفرها القلق" (1993، ص 166). بعبارات أخرى، يُعتبر اليأس نتيجة لغياب الرغبة والشجاعة للعيش بصحة النفس. يؤكد كيركيغارد أن كل فرد يكون مستعدًا للتخفيف من قلقه على حساب جزء من إنسانيته، وهذا ما يسمى باليأس. وبالتالي، فإن اليأس يمثل نوعًا من الفساد البشري الذي يحول دون تحقيق الفرد لذاته الحقيقية. اليأس ليس مجرد شعور أو عاطفة، بل هو في جوهره حالة من حالات الذات البشرية (مولين، 1981، ص 60).
درس كيركيغارد في عصرنا
لم نفكك سوى القليل من جوهر أفكار كيركيغارد حول الوجود الإنساني وما يكتنفه من قلق ويأس. ومع ذلك، حتى في هذه المرحلة المبدئية، تتمكن الرؤى المستخلصة من فلسفته من إلقاء ضوء ساطع على جوانب حياتنا. كم مرة يراودنا الشك في أن الحياة تتلاشى كسراب، وأن أعماق ذواتنا الحقيقية لاتزال غامضة وغير مكشوفة؟ وفقًا لكيركيغارد، يميل الأفراد أحيانًا إلى خداع أنفسهم كوسيلة للهروب من وطأة الالتزام بالمسؤولية التي تفرضها لحظات الاضطراب. ولعل هذا هو السبب الذي يقودنا إلى التعلق المبالغ فيه بـ"تسلية" أنفسنا، سواء من خلال الألعاب أو الاستهلاك المفرط، أو حتى الإدمان. هذه المشتتات تتيح لنا الفرار من دعوة مواجهة قلقنا، وتعرّفنا على ذواتنا الحقيقية.
قبل أن نختتم، يجب أن نبرز أن سورين كيركيغارد كان كاتبًا ينتمي إلى عالم الدين، وقد ارتبط مفهوم اليأس لديه بالخطيئة. فهذه الخطيئة تمثل مرضًا مقصودًا، ناتجًا عن أساليب خداع النفس. أما الذات السليمة، فهي تلك التي تواجه المخاوف بشجاعة، وتتحمل عبء مسؤولية مشروع حياتها، فتسعى في النهاية لبناء رابط عميق مع الله.
أهنيج على هيج مقال رائع وعميق👏
بعيدا عن محتوى المقال و صحته، لكن أبدعت في كتابة المقال 👏🏻