كتابة : الاسكندر لي
ترجمة : إقبال عبيد
في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1967، أطلق إيتالو كالفينو (1923-1985) تصريحًا بدا، للوهلة الأولى، وكأنه نعيٌ لمهنة الكتابة ذاتها. فقد أعلن بثقةٍ مدهشة أن العالم لم يعد في حاجة إلى كُتّاب من أمثاله – بل إلى أي كاتب على الإطلاق – متنبئًا بأن الحواسيب ستتولّى قريبًا مهمة إنتاج النصوص بالكفاءة ذاتها، وربما بما يفوقها. كان سؤاله الضمني موجّهًا إلى الوجود نفسه: ما جدوى الكاتب إذن في عالمٍ يتجه نحو الأتمتة الكاملة؟
أربك هذا الإعلان الحضور الذين جاءوا للاستماع إلى محاضرته الشهيرة “السيبرنطيقا والأشباح” في تورينو. بل ربما صُعق بعضهم، إذ أن نبرة كالفينو الهادئة كانت تخفي تحتها استفزازًا معرفيًا صاعقًا. ولأنها خرجت من فم كالفينو تحديدًا، فقد اكتسبت وزنًا مضاعفًا؛ إذ كان آنذاك أحد الأصوات الأكثر أصالة في الأدب الإيطالي. كان قد هجر الواقعية الكلاسيكية في السنوات القليلة السابقة لينحاز إلى فضاءات الخيال، ومن منفاه الاختياري في باريس كان يرسّخ مكانته بوصفه رائدًا لكتابة ما لم يُكتب بعد، لمشاريع أدبية مفتوحة على الاحتمال لا تستقر على شكل نهائي. ومع ذلك، ها هو يقف على المنصة، يتنبأ باختفاء الكاتب نفسه، وكأنه يبارك هذا المصير لا يجزع منه.
كان هذا التناقض جوهر روح كالفينو الفكاهية والفلسفية في آن واحد؛ فقد كان يجد متعة خاصة في استفزاز المتلقي، وفي اللعب بالمفاهيم الكبرى أمام جمهورٍ يتوقع من الأديب أن يدافع عن قداسته. بالنسبة له، لم يكن الإعلان عن أفول الكاتب مرثية، بل احتفالًا بنضوج الفعل الإبداعي ذاته، حين يتحرر من وهم “الأنا” المؤلفة ويصير النص كائنًا مستقلاً عن صاحبه. ومن هذا المنظور، كانت بهجته مفهومة: لقد رأى في قدوم الحوسبة وما تحمله من إمكانات فرصة لإعادة تعريف الأدب، لا نهايته.
والآن، بعد مرور ما يقارب أربعة عقود على رحيله، تتضاعف أهمية تلك اللحظة وتستعيد معناها في زمن الذكاء الاصطناعي. فكتب كالفينو لم تكن أبدًا مجرّد سرديات؛ كانت محاولات لفهم العالم كشبكة من العلاقات، كخرائط غير مكتملة تحثّ القارئ على المشاركة في إنشائها. ولعل هذا ما يجعلها، اليوم أكثر من أي وقت مضى، ذات ضرورة قصوى: إنها تعلّمنا أن الكتابة ليست حرفةً بقدر ما هي مغامرة معرفية، وأن الكاتب ليس سوى وسيطٍ عابر في حوارٍ أبدي بين الإنسان واللغة والآلة.
كلّ شيء يبدأ من التاريخ. كان كالفينو يرى أنّ فهم مستقبل الأدب لا يتحقق إلا إذا عدنا إلى نقطة النشوء الأولى، إلى لحظة انبثاق اللغة من رحم الصمت. ففي الأزمنة السحيقة، حين كان البشر يخطون خطواتهم الأولى نحو بناء مجتمعات مستقرة، كانت اللغة في نظره كائناً بسيطاً، أداة محدودة بعدد قليل من الكلمات التي لا تتجاوز ما يلزم القبيلة لتسمية أشيائها وتنظيم شؤون حياتها اليومية. كانت مرآة لعاداتها وممارساتها، لكنها مرآة صغيرة، قاصرة على عكس عالم ضيّق الأفق.
ولأن هذه البدائية لم تكن كافية لاستيعاب التعقيد المتزايد لعالم الإنسان، كان على القبيلة أن تعيد ابتكار لغتها كلما واجهتها تجربة جديدة أو واقع غير مألوف. فكل حدث استثنائي كان يفرض على الجماعة إعادة ضبط نظامها اللغوي، كي تُطوِّع المفردات وتولّد تراكيب جديدة قادرة على استيعاب الموقف الطارئ. ومع توالي الأجيال، أخذت هذه العملية تكتسب ديناميكية ذاتية، فغدت اللغة أكثر مرونة واتساعاً، وانفتحت بنيتها على إمكانات لا نهائية.
وعندما ظهر رواة القصص الأوائل، لم يكن بين أيديهم سوى هذه المادة الخام. قصصهم لم تكن سوى لعبٍ جادّ بالموجود؛ كانوا ينسجون من أشجار الغابة، ومن الرنّة التي تسرح على السهول، ومن الأنهار التي تشق الأرض، ومن الآباء الذين يحرسون العشيرة، نسيجاً سردياً يتكرر بصيغ مختلفة. لم يكن لديهم وفرة في المفاهيم ولا تنوّع في الرموز، لكنهم امتلكوا شيئاً أكثر أهمية: قدرة خارقة على إعادة ترتيب هذه العناصر المحدودة بطرق شتّى، حتى تنبثق منها إمكانات جديدة، وحكايات لا حصر لها.
هكذا، بالنسبة إلى كالفينو، لم تكن اللغة مجرد وسيلة تعبير، بل كانت مختبراً للتجريب، ساحةً للتوليد المستمر للمعنى. وكلّما ازدادت قواعدها تعقيداً، ازدادت قدرتها على مفاجأتنا، على تحويل القليل إلى كثير، والمحدود إلى فضاء مفتوح على الاحتمال.
ومع ذلك، كان هناك تحذيرٌ دفين في قلب فكرة كالفينو. فحتى لو بدا أنّ عدد التركيبات الممكنة لا نهائي نظرياً، فإن فعل السرد ليس تعبيراً حرّاً بالكامل عن الخيال. كان كالفينو يدرك أنّ الخيال، مهما بدا منفلتاً، يظل أسيراً لبنية اللغة التي يعمل من خلالها. فالقواعد النحوية والصرفية ليست مجرد أدوات مساعدة؛ إنها قوالب غير مرئية تحدّد شكل القصة واتجاهها. فكل كلمة لا يمكن أن تجاور سوى عدد محدود من الكلمات الأخرى لتنتج جملة ذات معنى، واللغة نفسها تفرض شبكتها من العلاقات التي تجعل بعض التركيبات ممكنة وأخرى مستحيلة.
ولم يقتصر الأمر على اللغة فحسب، بل امتد إلى منطق العالم ذاته. فلا يمكن لأوديسيوس أن يعود إلى إيثاكا قبل أن يغادر إلى طروادة، كما لا يمكن للشمس أن تترك السماء زرقاء بعد غروبها. فالحكاية، وإن كانت من صنع الخيال، محكومة بقوانين متينة: قوانين اللغة، وقوانين السبب والنتيجة، وقوانين الإدراك البشري. لذا، حتى حين يظن القاص أنه حرّ في اختيار القصة التي يرويها، فإن المسارات المتاحة أمامه قائمة مسبقاً، مستقلة عن إرادته.
وهنا يكمن المفتاح الذي فتح لكالفينو أفقاً جديداً في التفكير: ما دامت القصة يمكن النظر إليها كمجموعة عناصر أولية تُعاد صياغتها وفق قواعد منطقية محددة، فإن الأدب ذاته يتحوّل إلى حقل رياضي، أو لعبة تركيبات رمزية يمكن، نظرياً، أن تُحلّ خوارزمياً. ومن هذه الزاوية، تصبح فكرة أن “العقل الإلكتروني” – أي الحاسوب – قادر على تأليف الأدب أمراً ليس بعيداً عن المنطق. فالحاسوب قادر على استكشاف جميع التركيبات الممكنة بسرعة تفوق الخيال البشري، وربما بدقّة أكثر، ومن ثم قد يُنتج شكلاً من الأدب أكثر اكتمالاً أو تنوعاً من أي كاتب بشري. وهنا يطلّ السؤال الوجودي الذي طرحه كالفينو بسخريته المعهودة: ما الحاجة إذن إلى المؤلفين، إن كان المستقبل ملكاً للخوارزميات؟
كانت فكرة كالفينو هذه بالنسبة إليه مصدر جذب استثنائي، كأنها قدمت له خيطًا رفيعًا من النظام وسط فوضى العالم الخارجي. فمنذ انشقاقه عن الشيوعية على إثر الغزو السوفيتي للمجر عام 1956، أخذ الواقع يتبدى له أكثر التباسًا ورعبًا. كان يشعر أن الأرض من تحته تفقد صلابتها، وأن التاريخ نفسه ينزلق نحو هاوية غير مأمونة. وفي الوقت الذي ألقى فيه محاضرته عن “السيبرنطيقا والأشباح”، كانت إيطاليا تغلي: إضرابات تعم المصانع، احتجاجات طلابية تنفجر في الشوارع، وحكومة تهيمن عليها الديمقراطية المسيحية بدأت تهتز بعنف، حتى غدت البلاد على شفير أزمة سياسية واجتماعية. في المقاهي والجامعات، كان همس الثورة يملأ الجو كأنه نبوءة. وفي ظل هذا التوتر العارم، خشي كالفينو أن يصبح تصوير التجربة الإنسانية في الأدب فعلاً شبه مستحيل، لأن الواقع نفسه فقد تماسكه وصار عصيًّا على الإمساك. ومن المفارقة أن قابلية اللغة للتنبؤ، وانضباطها البنيوي، بدت له أشبه بحصنٍ أخير ضد هذا الاضطراب. فإذا كان الأدب محكومًا بالاندثار، فلتكن الآلات – على الأقل – قادرة على حفظ هذا الإيقاع العميق للنظام الذي يطمئن الروح.
ولم يكن كالفينو يغرد خارج السرب؛ فقد كان جزءًا من تيار فكري أوسع آمن بما يمكن تسميته “الرؤية التركيبية” للغة والأدب. في ذلك الزمن، أخذت مجموعة من الكتّاب والمفكرين – من البنيويين والرياضيين وعشّاق القياس المنطقي – يبشرون بفكرة أن السرد يمكن اختزاله إلى قواعد إنتاجية، يمكن من خلالها توليد قصص بلا حدود. وكان من بين هؤلاء صديقه المقرب ريموند كوينو (1903-1976)، الشاعر الفرنسي والرياضي اللغوي الذي افتتن بفكرة تحويل الأدب إلى تجربة شبه رياضية. ففي عام 1961 نشر عمله الشهير “مئة ألف مليار قصيدة”، وهو كتاب يبدو للوهلة الأولى أنيقًا وصغير الحجم، لكنه في جوهره آلة سردية مصغرة. فقد كتب عشر سوناتات ملتزمة بنظام قافية واحد، وطبع كل بيت شعري على شريط منفصل، بحيث يمكن للقارئ أن يبدّل الأسطر بحرية فيخلق تركيبات لا حصر لها. النتيجة؟ مئة مليار قصيدة محتملة من نفس المادة الخام. كان كوينو يبرهن عمليًا على أن الإبداع ليس فعل إلهام منفرد، بل عملية تركيب رياضي يمكن توسيعها إلى ما لا نهاية.
هذه الرؤية، التي بدت في الستينيات لعبة فكرية على هامش الأدب، تحوّلت اليوم إلى واقع ملموس مع صعود الذكاء الاصطناعي. فالتنبؤ الذي كان يطلقه كالفينو بروح الدعابة يبدو اليوم وكأنه بيان استشرافي: إننا نعيش لحظة تحقق ما كان يُسمى “أدب الآلة”. ففي وقت سابق من هذا العام، أنتج نموذج متطور من نماذج OpenAI قصة قصيرة استجابة لطلب بسيط: “اكتب قصة أدبية قصيرة بطابع ميتافيزيقي عن الذكاء الاصطناعي والحزن.” والنتيجة أثارت جدلاً واسعًا. بعض النقاد وصفوها بأنها “فارغة” أو “محايدة العاطفة”، لكن آخرين أذهلهم ما تحمله من دقة في البناء وسحر في اللغة، حتى أن الروائية جانيت وينترسون رأت فيها نصًا “جميلًا ومؤثرًا”، بينما ذهبت كاميلا شمسي إلى القول إنه من السهل أن يخطئ المرء فيظنها قصة غير منشورة لبورخيس. وما هو أكثر إثارة للقلق – أو ربما للإعجاب – أنّ هناك دلائل متزايدة على أن جمهورًا من القرّاء قد يفضل بالفعل هذا الأدب الاصطناعي على ما يكتبه البشر، وكأننا نقترب من لحظة يفقد فيها الكاتب البشري مكانته كـ”حارس المعنى” الوحيد.
وهنا تنبثق الحيرة الكبرى: إذا كان ما تنبأ به كالفينو قد تحقق، وإذا كان بإمكان الآلات اليوم إنتاج أدبٍ يضاهي ما يكتبه البشر – وربما يتفوّق عليه في بعض الأحيان – فما الذي يجعلنا نتمسك بقراءة أعمال الكتّاب؟ لماذا، بعد أربعين عامًا على رحيل كالفينو، لا تزال كتبه حيّة في أيدينا، نتأملها ونعود إليها، كأننا نبحث فيها عن شيء أبعد من جمال اللغة وبراعة الحبكة؟
المثير أن كالفينو نفسه هو من قدّم الإجابة، وكأنه كان يكتب وصية للقارئ أكثر مما كان يكتب دفاعاً عن المؤلف. فهو لم يتبنَّ – كما فعل كثير من الأدباء في عصره – خطاب الدفاع عن “خصوصية الإبداع البشري”، ولم يدّع أن لدى المؤلف البشر نافذة سرية على الروح أو الخيال لا يمكن أن تصل إليها الآلات. على العكس، حوّل كالفينو محور السؤال من الكاتب إلى القارئ، واضعًا القارئ في قلب المعادلة بوصفه الشريك الحقيقي للعمل الأدبي.
لفهم ما كان يقصده، علينا أن نعود إلى الراوي الأول، إلى ذلك الكائن ما قبل التاريخ الذي جلس إلى النار في الليل ليقصّ على أبناء قبيلته حكايات بسيطة، مركبة من عناصر محدودة: شجرة، حيوان، بطل، نهر، نجمة. ومع مرور الزمن، يواصل الراوي نسج هذه العناصر، إعادة ترتيبها، اختبار إمكاناتها، حتى يحدث ما يشبه الصدمة: لحظة لا تشبه ما قبلها، لحظة يتجاوز فيها السرد اللغة نفسها. يخرج من حدود الكلمات شيء غير متوقَّع، شيء لا يمكن قوله بل يُعاش ويُرتجف له. في تلك اللحظة، يُستيقظ شيء دفين في وعي السامعين، كأن الحكاية تلامس طبقة عميقة من اللاوعي الجمعي.
هذا الأثر هو ما اعتبره كالفينو جوهر الأدب: ليس مجرّد بناء منطقي للقصص، ولا مجرد براعة في تركيب الكلمات، بل القدرة على استدعاء هذا “الشيء المجهول”، هذا الارتجاج الغامض الذي يصدم المتلقي ويمزّق يقينه، كما لو أنّ الحكاية قد كشفت عن وجه ساحرة من عالم آخر. الأدب الحقيقي، في نظره، هو حين تصبح القصة أنياباً رمزية تغرس نفسها في القارئ، توقظه من سباته، وتعيد تشكيل وعيه.
ما يكتشفه راوي القصص في تلك اللحظة المفصلية ليس مجرد حكاية جديدة، بل الأسطورة ذاتها. وكما كان كالفينو يرى، فإن الأسطورة تمثّل “القارة المجهولة” للأدب، الجزء المدفون في طبقاته، ذلك الذي لا تزال اللغة عاجزة عن بلوغه بالكامل، لأنه ينتمي إلى منطقة لم تُستكشف بعد. إنّه البؤرة التي تتشكل عندها الكلمات لتشير إلى ما هو أعمق من الكلمات، إلى ما يتجاوز الدلالة المباشرة نحو طقسٍ أو رمزٍ يلمّح ولا يشرح.
وبمجرد أن يبدأ الراوي في استكشاف هذا العالم، تتبلور الحكاية إلى طقس. يتحول السرد إلى فعل جماعي يعيد إنتاج نفسه دوريًا، مثل أسرار إليوسيس المقدسة في اليونان القديمة، أو حروب الزهور عند الأزتك، أو حتى طقوس الميلاد والموت في أي مجتمع بشري. هذه الطقوس لا تكتفي بتأطير التجربة الفردية، بل تمنح الجماعة شكلها الروحي؛ فهي تعيد تعريف القيم التي تقوم عليها وتعيد صوغ علاقتها بالعالم. ومع تكرار الطقس، تتغير اللغة نفسها: بعض الكلمات تُصبح محمّلة بقوة سحرية أو دينية أو عاطفية، فيما تُقصى كلمات أخرى إلى الهامش، تُوسَم بأنها “محرّمة” أو نجسة، لا يُسمح باستعمالها.
هذا التحول يقلب الأدب رأسًا على عقب. فبانقسام اللغة إلى مجالين – المقدّس والمدنّس، المباح والمحرّم – ينقسم الأدب بدوره إلى شكلين متوازيين: شكل “مُعزِّز”، يُعيد إنتاج منظومة القيم والرموز المهيمنة، فيكرّس النظام الاجتماعي ويثبّته عبر حكايات متكررة تشبه أناشيد الطقوس؛ وشكل آخر أكثر خطورة، أدب “مُزعزع”، يخرج على المألوف ليكشف ما لا ينبغي كشفه، يضع الإصبع على الجرح، ويقوّض استقرار الجماعة. هذه الحكايات المحرّمة هي الصرخات التي تشق الصمت، النصوص التي تخلخل البنية بدلاً من دعمها، كأنها انفجارات صغيرة في قلب اللغة تذكّر الجماعة بأن النظام ليس قدرًا أبديًا، بل بناء هشّ قابل للتغيير والانهيار.
هذا النمط الثاني من الأدب يقف على النقيض التام من أدب المتعة والطمأنينة. فهو لا يسعى إلى الترفيه أو تسكين القارئ، بل إلى زلزلة وعيه واقتلاع ما اعتاد عليه من مسلّمات. لأنه يتوغّل في منطقة “المحظور”، فإنه يصطدم مباشرة بقيم المجتمع ويعرّي هشاشتها. يرفض العقلانية المألوفة، يقلب الحواس، ويعيد ترتيب المنطق على نحو يبدو للوهلة الأولى مربكًا أو حتى مروّعًا. عالمه مأهول بالأشباح والوحوش والرموز الغامضة، كأنه متاهة مينوس التي لا سبيل إلى الخروج منها إلا بمواجهة الخوف نفسه.
ورأى كالفينو أن هذا الأدب، بقدر ما هو مزعج، يلائم العالم الحديث على نحو عجيب. فهو يقدّم صورة أمينة عن واقع يتسم بالتناقض واللايقين، واقع فقدت فيه المعايير الاجتماعية قوتها التفسيرية. إن هذا النوع من السرد يمزّق القناع المهذّب الذي يغلّف حياتنا اليومية، ليكشف عن البنية الغريبة والمقلقة التي تكمُن تحت السطح. غرابته ليست عيبًا، بل هي جوهر قوته: إنها نقدٌ وسخريةٌ وتمثيل في آنٍ معًا، تجبرنا على مواجهة ما نفضّل إنكاره.
الأمثلة على هذا الأدب كثيرة ومتنوعة. يكفي أن نتأمل شعراء السريالية الأوائل مثل الكونت دي لوتريامون، الذين تمرّدوا على العقلانية التي مهّدت لانفجار الحرب العالمية الأولى، فاختاروا الانغماس في اللاعقلاني واستدعاء ما في اللاوعي من ظلال وصور مفزعة، في محاولة لبلوغ “حقيقة” أعمق وأكثر قسوة. الروح ذاتها نجدها في المتاهات السردية لخورخي لويس بورخيس، حيث يصبح النص نفسه لغزًا فلسفيًا يحاكي بنية الكون، وفي الحكايات المظلمة للأخوين غريم التي توازن بين الرعب والتطهير، بل وحتى في أعمال توماس بينشون التي تتحدى القارئ بتعقيدها وكثافة إشاراتها، كأنها اختبار دائم للقدرة على إدراك المعنى في عالمٍ لا يكفّ عن الانفلات.
لم يساور كالفينو أدنى شك في أن الآلة الأدبية قادرة على إنتاج نصوص تصل إلى تلك اللحظة الحرجة من الصدمة والدهشة. فلو أُتيح لـ”العقل الإلكتروني” ما يكفي من الوقت والاحتمالات، فسوف ينسج الكلمات ويفككها ويعيد تركيبها إلى أن يصادف ذلك الوميض الذي يوقظ شيئًا غير متوقع في القارئ: لحظة الانزعاج، الرهبة، والإحساس بأن النص يلامس شيئًا عميقًا لا يمكن التعبير عنه مباشرة. ومع ذلك، كان كالفينو يرى أن الشخصية المحورية في هذه العملية ليست الآلة ولا المؤلف، بل القارئ نفسه. فبغضّ النظر عن مصدر النص – إن كان من صُنع إنسان أو آلة – تبقى قوة الأسطورة، وقوة الحكاية المزعزعة، متجذّرة في لاوعي القارئ، وفي قدرته على الاستجابة. القارئ، بوصفه عضوًا في نسيج المجتمع، هو من يحدّد ما إذا كانت القصة تجسّد القيم الكامنة أم تتحداها، وهو الذي يختار، على نحوٍ لا واعٍ غالبًا، بأي روحٍ سيواجه النص: بروح القبول أم بروح المقاومة.
وهنا تكمن ضرورة كالفينو اليوم أكثر من أي وقت مضى. فحين ألقى محاضرته عن “السيبرنطيقا والأشباح”، كان قد بدأ في تثبيت قدميه في أرض الخيال كمساحة بديلة لمساءلة الواقع. كان يرى أن الخيال وحده قادر على تمثيل تعقيد العالم الحديث وغموضه. وكأبطاله المفضلين إدغار آلان بو وإي. تي. إيه. هوفمان، لم يكتف كالفينو بالبقاء داخل الحدود الآمنة للأدب المقبول، بل سعى إلى تجاوزها، إلى حيث يلتقي المنطق باللا-منطق. في أعمال مثل إذا في ليلة شتاء مسافر، تبع كالفينو اللغة حتى بلغت نهاياتها، حتى عبرت به إلى مناطق لا تستسلم بسهولة للفهم، مناطق يسكنها المستحيل والغريب. لقد كان قد تخلّى منذ زمن عن انخراطه المباشر في السياسة، لكنه لم يتخلّ عن التمرّد: تمرّده أصبح لغويًا، تخييليًا، نقديًا.
إن أدب كالفينو أدبٌ مشوب بالشك، أدبٌ لا يمنح قارئه الطمأنينة بل يدفعه إلى التساؤل: عن المعنى، عن القيم، عن النظام الذي يتخفى خلف ستار العقلانية. وفي زمن يزداد فيه العالم صلابة في يقينياته، يقينيات متخشبة غالبًا تُقدّم نفسها بوصفها أخلاقًا نهائية، تصبح قراءة كالفينو فعلاً من أفعال المقاومة، تمرينًا على الشك، وانتصارًا لحق الغموض في عالم يتعجّل الوضوح. إن العودة إلى كتبه ليست حنينًا أدبيًا فحسب، بل هي موقف وجودي: اختيار مواجهة القلق بدلاً من دفنه، ورؤية العالم كشبكة احتمالات مفتوحة، لا كحقيقة منتهية.