كاهن يسوعي من القرن الثامن عشر رسم ملامح ميكانيكا الكم قبل قرنين من ولادتها
ترجمة : إقبال عبيد
كتابة : فيدران أوبوسينا
كاهن يسوعي من القرن الثامن عشر رسم ملامح ميكانيكا الكم قبل قرنين من ولادتها
قبل أن يُطلّ أينشتاين على العالم بنظريته النسبية، وقبل أن يبسط بور رؤيته للذرة، كان ثمة كاهن يسوعي يقف على شرفة العلم بتلسكوبٍ متواضع، لكنه يحمل خيالًا أبعد من زمنه، وبصيرة تُحاور المستقبل.
في القرن الثامن عشر، يوم كان الفكر العلمي أسير يقين نيوتن الحديدي، ينظر إلى الكون بوصفه آلةً محكمة التروس، محسوبة الحركة، خالية من المفاجآت، ذات قوانين صلبة وواضحة؛ وقف الأب روجر جوزيف بوسكوفيتش العالِم الموسوعي المنحدر من دوبروفنيك على الضفّة الأخرى من هذا اليقين. لم يُرضِه أن تُختزل المادة في كتلٍ متجاورة، فأطلق فكرته الجريئة: المادة ليست متصلة، بل مؤلفة من نقاط أوليّة تتفاعل عبر قوى غير مرئية، تتنافر وتتجاذب وفق نظام شديد الدقة.
بهذه الرؤية، لم يكتفِ بوسكوفيتش بتحدّي تفسير عصره، بل استبق ميلاد الفيزياء الذرية وميكانيكا الكم بقرابة قرنين كاملين. لقد صاغ، بحدسٍ مذهل وبمنهج يتجاوز زمنه، تصورًا لكونٍ ديناميكي مُكمّم، تُبنى فيه البنية المادية على وحدات غير قابلة للانقسام.
عالم دوبروفنيك الموسوعي
وُلد بوسكوفيتش في 18 مايو 1711 في دوبروفنيك (جمهورية راغوزا قديمًا)، وكان مثالًا حيًا لإنسان عصر النهضة المتأخر؛ رجلٌ اتسعت معارفه لتشمل الفيزياء والرياضيات والفلك والفلسفة والشعر والدبلوماسية، إلى جانب مكانته كاهنًا ضمن جمعية يسوع. لم يكن عالمًا متخصّصًا فحسب، بل عقلًا مُتشعّبًا يرى الكون من زوايا شتّى، ويصوغ أفكاره كما لو أنه يرسم خريطة لمستقبلٍ لم يولد بعد.
بدأ بوشكوفيتش تعليمه في الكلية اليسوعية في مدينته قبل أن ينتقل إلى الكلية الرومانية في قلب روما، حيث انفتحت أمامه عوالم المعرفة الرفيعة. وبحلول عام 1740، كان قد اعتلى منصّة التدريس يشرح الرياضيات بصفاء ذهنٍ ونباهة، ثم رُسِّم كاهنًا عام 1744، ليجمع بين صرامة العلم وعمق الروح. لم يكتفِ بالمحابر والقاعات، بل نزل إلى الميدان، يقيس ويحلّل ويقود تحقيقات هندسية معقّدة لإصلاح الشقوق التي هددت قبة كاتدرائية القديس بطرس، في مهمةٍ حملت الطابع نفسه الذي ميّز حياته: عقلٌ يتفحّص ما يظنه الآخرون ثابتًا.
وبرز بوشكوفيتش، خلال ذلك، كعقل موسوعي نادر؛ إذ امتد أثره من الميكانيكا الكلاسيكية والفيزياء إلى علم الفلك والفلسفة الطبيعية. وضع نظرية للقوى كانت، في زمانها، ضربًا من الجرأة الفكرية، وأسهمت لاحقًا في صياغة البنى العميقة للعلوم الحديثة. ولم تكن مساهمته في إصلاح قبة الفاتيكان مجرد عمل هندسي، بل مثالًا على قدرة رجل واحد على رؤية الانسجام حيث يرى الآخرون تصدعات.
كان ذكاؤه فوق الجدل، واعترف به لاحقًا عمالقة الفكر، من أمثال فيرنر هايزنبرغ وفريدريك نيتشه، واصفين إياه بأنه سيد من سادة الفلسفة الطبيعية. غير أن إرثه الأكبر لم يكن في الأبنية التي ترسّخت بفضله، بل في الأسئلة التي أثارها، والرؤى التي صاغها قبل أن يجد العلم الحديث لغته لوصفها.
الفكرة الجذرية
لفهم تفوّق بوشكوفيتش على عصره، لا بد من العودة إلى صورة العالم في القرن الثامن عشر؛ زمنٍ كان فيه الحكم العلمي لنيوتن مطلقًا. كانت المادة تُرى كتجميع لكتلٍ صلبة، ذات أبعاد وكتلة وحركة، تُحكم بقوانين يسهل التدقيق فيها من خلال القوى والتسارع. كان الكون، في نظر معظم العلماء، آلية يمكن فكّها وتركيبها بوضوحٍ مطمئن.
لكن بوشكوفيتش لم يطمئن لهذا الوضوح. كان ينظر إلى المادة كما ينظر شاعرٌ إلى البحر: ما يظهر للعين لا يفسّر عمق الموج. وفي عمله الخالد “نظرية الفلسفة الطبيعية” (1758)، قدّم أطروحته الأكثر جرأة: المادة ليست صلبة كما نتخيلها، بل مكوّنة من نقاط بلا أبعاد، تخضع كلها لقانون واحد يحكم القوى بينها؛ قانون يفسّر التنافر والتجاذب من دون الحاجة إلى افتراض صلابة أو امتداد.
هكذا شقّ طريقًا جديدًا، رأى فيه الكون شبكة من التفاعلات الدقيقة، لا مجرّد كتلٍ تندفع في الفراغ. كان يرسم، قبل أن يُولد العلم الذي يسمّيه، الخطوط الأولى لفكرةٍ ستتحول مع الزمن إلى أحد أعظم ثورات المعرفة: ميكانيكا الكم.
وهنا تتجلّى الفكرة التي خُلّد بها اسمه: “منحنى قوة بوشكوفيتش”. فقد افترض أن القوى التي تربط الجسيمات ليست ثابتة ولا خطية، بل تتبدّل تبعًا للمسافة، كما لو أن الطبيعة نفسها تخوض حوارًا خفيًا بين التجاذب والتنافر:
عند المسافات شديدة الصِغَر: تتصرف القوة بوصفها قوة تنافرية صلبة، تمنع المادة من أن تطوي نفسها على ذاتها أو تنهار في نقطة واحدة.
عند المسافات المتوسطة: تنقلب العلاقة إلى تجاذب، فيتولد التماسك الذي يسمح للمادة بالبقاء كيانًا مستقرًا لا يتفتّت.
وعند المسافات الواسعة: تخضع الجسيمات لقانون الجاذبية الذي يحكم انسجام الكون الكبير.
هذا التناوب بين التجاذب والتنافر ليس مجرد وصف لميكانيكا طبيعية، بل رسمٌ لنظامٍ عميق ينتج نقاط توازن مستقرة؛ بنية داخلية تُذكّرنا اليوم باستقرار الذرات والروابط الكيميائية بينها. كان بوشكوفيتش، دون أن يدري، يضع اللبنة الأولى لفكرةٍ ستصبح أساس علم العصر الحديث: أن قوى الطبيعة هي التي تُبقي المادة على قيد الوجود، لا صلابة الجسيمات نفسها.
لقد سبق الجميع في صياغة المبدأ القائل إن البنية لا تنشأ من الكتلة، بل من العلاقة، من شدٍّ وجذبٍ ينتجان شكل الأشياء.
هل كان هذا تمهيدًا لنظرية الكم؟
الصفحة الافتتاحية من الرسوم البيانية المصاحبة لكتابه “نظرية الفلسفة الطبيعية” الصادر عام 1763 تكشف عقلًا لا يشبه علماء عصره. فمجرد النظر إلى المادة بصفتها نقاطًا منفصلة لا كتلًا متصلة كان خطوةً فكرية هائلة، مهدت —بشكل غير مباشر— لمفهوم “الكَمّ” الذي سيتبلور لاحقًا:
الفوتون بوصفه كمًّا من الضوء، والإلكترون بوصفه كمًّا من الشحنة.
لقد قدّم بوشكوفيتش تصورًا يشبه ما نقوله اليوم في ميكانيكا الكم: أن العالم ليس نسيجًا متصلًا، بل سلسلة من الوحدات الدقيقة المنفصلة، يتحدد سلوكها بقوى أساسية تحكم تفاعلها.
وما هو أعجب من ذلك، أن بوشكوفيتش فتح الباب لظهور مفهوم “المجال” قبل أن يمتلك العلم لغة تصفه. فقد تحولت رؤيته للقوى المتبادلة عبر الفضاء إلى الشرارة التي التقطها لاحقًا مايكل فاراداي، ثم صقلها جيمس كلارك ماكسويل في نظريتهما الشهيرة عن المجال الكهرومغناطيسي.
وقد اعترف فاراداي صراحة بأن إلهامه الأول في تصور المجال الكهربائي جاء من أعمال بوشكوفيتش.
هكذا يتضح أن هذا الكاهن اليسوعي، الذي عاش قبل ميلاد ميكانيكا الكم بقرنين، لم يكن مجرد عالم سابق لعصره، بل عقلًا استشرافيًا خطّ للفكر العلمي دروبًا لم تُكشف إلا لاحقًا.
لكن تأثير بوشكوفيتش أعمق بكثير من مجرد استباقه لفيزياء الذرة أو تصوره المبكر للقوى. فقد ذهب إلى ما هو أبعد من البناء الرياضي، إلى حدود العقل نفسه. جادل بأن الذهن البشري، مهما أوتي من قدرة، يواجه عتبة لا يستطيع اجتيازها عند محاولة وصف المستويات الأعمق من المادة. وعلى المستوى الذري، كما قال، قد يصبح الوصف الدقيق مستحيلًا؛ ليس لأن المادة عصيّة، بل لأن أدوات المعرفة نفسها لا تمتد إلى ذلك العمق.
هذا الجوهر الفلسفي، الذي سماه بعض الباحثين “مبدأً أوليًا للشك”، سيظهر لاحقًا في صورة قانون علمي صارم على يد فيرنر هايزنبرغ في مبدأ عدم اليقين، بعد قرون من حدس بوشكوفيتش.
ولم يتوقف أثره عند حدود الذرّة. فالفيلسوف الكرواتي زلاتكو يوراس يشير إلى أن بوشكوفيتش لمس دون أن يدري مفهومًا يقارب ما نسميه اليوم الطاقة المظلمة. فقد وصف قوة تنافرية تعمل عند المسافات الكونية الشاسعة، قوة تبدو كما لو أنها تدفع الكون إلى الاتساع. هذا التصور، الذي بدا في زمانه ضربًا من التأمل النظري، يشبه بشكل مُدهش فهمنا الحديث لتسارع الكون.
وبالاتجاه ذاته، يرى الفيلسوف روكو بيشيتش أن معالجة بوشكوفيتش للمكان والزمان بوصفهما وحدتين منفصلتين لا إطارين مطلقين شكّلت جسرًا مبكرًا نحو نظرية النسبية عند أينشتاين. ويذهب بيشيتش أبعد من ذلك حين يقول إن بوشكوفيتش “ميّز بين الفضاء الفعلي والفضاء الكامن”، وهو تمييز يتوافق بشكل لافت مع تفسير ميكانيكا الكم للعمليات الافتراضية التي تظل في حالة إمكان حتى تُلتقط في لحظة القياس، فتتحول من الإمكان إلى الوجود.
الإيمان ونسيج الواقع
لم يكن العلم، في نظر بوشكوفيتش، نقيضًا للإيمان ولا قطيعة معه، بل طريقًا لفهمه بعمقٍ أكبر. فبوصفه يسوعيًا، رأى أن انتظام الكون ووحدة قوانينه ليسا مصادفة عمياء، بل صدى مباشر للعقل الإلهي الذي أودع في الخلق نظامًا رياضيًّا محكمًا. وكتب مؤكدًا أن انسجام القوانين الطبيعية وتجانسها هما تجلٍّ من تجليات النظام الإلهي نفسه.
ويشير البروفيسور زفونيمير تشولياك من جامعة زغرب إلى أن فيزياء بوشكوفيتش كانت متجذّرة في الميتافيزيقا قبل أن تكون معادلاتٍ وصيغًا. فهو لم يتعامل مع العالم كفوضى تتقاطع فيها المصادفات، بل كـ «منظومة فائقة التعقيد من شروطٍ محدّدة»؛ بناء دقيق لا يتحرك إلا في إطار عقل كوني ينسّق أجزاءه.
رفض بوشكوفيتش الحتمية الباردة التي سيطرت على بعض مفكري عصره، تلك الرؤية التي اختزلت الكون إلى آلة صمّاء لا روح فيها. وبدلًا من ذلك، تخيّل عالمًا ديناميكيًا، يظل فيه الخلق فعلًا مستمرًا، تُديمه العناية الإلهية عبر قانون واحد شامل.
كونٌ تحكمه الرياضيات، لكنه نابض بالإمكانات، وفيه تتجاور الدقة مع الغموض، والصرامة مع حركة الحياة. ومن هذا التوليف النادر بين العلم والميتافيزيقا صاغ بوشكوفيتش رؤية كونية ذات عمق مزدوج: رياضيات صارمة، وروح تتجاوز ظاهر المادة.
في كتابه «نظرية الفلسفة الطبيعية»، شدّد بوشكوفيتش على أن الكون بأكمله خاضع لقانون واحد للقوى؛ وحدةٌ تنسجم مع المبدأ الكاثوليكي لإلهٍ واحد يدبّر الوجود بأكمله. كانت قوانين الطبيعة، في نظره، تعبيرًا رياضيًا عن عقلانية الله وكماله. فالطبيعة ليست اعتباطية ولا عشوائية، بل نسيج معقّد لكنه متناغم، يمكن رسمه بمعادلات تكشف عن تصميم عقلاني خفي وراء الظواهر.
إن الطريقة التي تتبع بها قوى الطبيعة منحنياتٍ رياضية فريدة لم تكن في نظره مجرد حقيقة فيزيائية، بل دليلًا على حكمةٍ أعمّ. فكل انتظام في الطبيعة، وكل انسجام في القوى، هو إشـارة إلى النظام الذكي الذي ينسّق الكون كما يُنسّق شاعرٌ متمكّن وزن القصيدة.
ولم يكتفِ بوشكوفيتش بربط القوانين بالميتافيزيقا، بل ذهب إلى ما هو أبعد: حدود العقل نفسه. فقد أكّد أن للعقل البشري طاقة عظيمة، لكنه يظل محدودًا حين يحاول النفاذ إلى أعمق مستويات المادة. وما ندعوه اليوم «التواضع المعرفي» —الاعتراف بأن إدراكنا للعالم جزئي ونسبي كان جزءًا أصيلًا من رؤيته. ورأى أن الطبيعة، خصوصًا على المستوى الذري، تُقاوم الوصف الكامل، وأن هناك حدودًا لا يمكن للعقل تجاوزها مهما بلغت قدراته.
وهذا الموقف الاستشرافي يلتقي مباشرة مع جوهر ميكانيكا الكم الحديثة؛ فمبدأ عدم اليقين عند هايزنبرغ ليس إلا التعبير الرياضي المتأخر عمّا أدركه بوشكوفيتش بشكل جلي قبل قرون: أن العالم في أعماقه ليس شفّافًا تمامًا، وأن المعرفة البشرية تُضيء أجزاء وتترك أجزاء في الظل.
وبذلك، وضع بوشكوفيتش من خلال مزجه بين الفلسفة واللاهوت والفيزياء الأساس الروحي والفكري للشك البنّاء الذي قامت عليه الفيزياء الحديثة. ذلك الشك الذي لا يهدم، بل يفتح الباب لطبقات جديدة من الفهم، حيث يقف العقل في مواجهة الواقع بتواضع وإصرار معًا.





