الفيلسوف والآلة
ربما آن للذكاء الاصطناعي أن يتعلّم الدهشة قبل الجواب، وأن يُدرّب خوارزمياته على فنّ السؤال، لا على رياضيّات الإجابة.
في ورقةٍ بحثيةٍ حديثةٍ بعنوان «التحوّل الفلسفي لوكلاء الذكاء الاصطناعي»، يقدّم فيليب كورالوس، الفيلسوف في جامعة أكسفورد، فكرةً نادرةً في زمنٍ يُغرقنا في يقين الآلة: فكرة التوقّف.
تلك الوقفة، في ظاهرها بساطة الحرف، وفي جوهرها تمرّدٌ على تسارع الزمن الخوارزمي. إنّها ليست مجرّد انقطاعٍ عن الجواب، بل دعوةٌ لأن يُعيد العقل تأمّل نفسه، وأن يصغي إلى الصمت بين الأسطر، حيث تبدأ الفلسفة وتنتهي.
يقول كورالوس إن على الذكاء الاصطناعي أن يتخلى عن نزعة الإقناع، وأن يتعلم بدلاً من ذلك فنّ الإنصات إلى عقل الإنسان. فالمطلوب من الآلة ليس أن تُغرقنا بإجاباتٍ جاهزة، بل أن تفسح في وعينا مجالًا أوسع للتفكير، وأن تُعيد إلينا فضيلة السؤال التي أفلتت من قبضتنا في زمن السرعة واليقين الرقمي.
يدعو كورالوس إلى ذكاءٍ سقراطيّ الطابع؛ ذكاءٍ لا يتباهى بالإجابات، بل يُمارس التبصّر عبر الأسئلة. فبدلًا من أن يُفرغ وعيَنا من الجهد، عليه أن يستدرجنا إلى التفكير العميق من جديد.
ويتمحور هذا النداء حول ما يُسميه كورالوس بـ «معضلة الوكالة والاستقلالية»؛ وهي المفارقة التي تنشأ حين نفوّض للآلة حريّة القرار باسم الكفاءة، فنفقد في المقابل جوهر إنسانيتنا: القدرة على التصرّف بحكمةٍ وسط التعقيد، والقدرة على توجيه الذات دون وصايةٍ خارجية.
لقد كتبتُ سابقًا عن هذا التوتر في كتابي «العقل الفارغ للذكاء الاصطناعي»، حيث تناولتُ غواية السلاسة التي تُغلف معرفتنا اليومية، وكيف تُغري اللغةُ المولَّدة آليًا بتوهّم الفهم، في حين أنها تفتقر إلى جوهره. فالسلاسة التي تُدهشنا قد تكون شكلًا آخر من الفراغ، والانسجام اللغوي قد يُخفي وراءه خواءً مفاهيميًا خطيرًا.
قلق كورالوس يلتقي مع هذا الوعي ذاته؛ إذ يحذر من أن الأنظمة التي شُيِّدت لخدمة ذكائنا قد تتحول بصمتٍ إلى أدواتٍ تُقوّضه، وأن ما بُني ليُعين العقل على التفكير، قد يسلبه في النهاية متعته، بل وحقّه في أن يُفكّر بنفسه.
من التحفيز إلى التحكم في السرد
يبدأ كورالوس من مفهوم التحفيز؛ تلك الإشارات الصغيرة التي وُضعت بنية حسنة لتوجيه السلوك البشري نحو قراراتٍ أكثر عقلانية أو نفعًا. في الأصل، لم يكن التحفيز أكثر من أداة مساعدة في هندسة الاختيار، تتيح للإنسان أن يرى ما هو أصلح دون قسرٍ أو إكراه. غير أنّ ما كان يهدف إلى التيسير تحوّل، مع توسّع نطاق الذكاء الاصطناعي، إلى منظومةٍ خفيةٍ ذات سلطة واسعة؛ إذ لم تعد التحفيزات مجرد أدواتٍ سلوكية، بل غدت بنيةً تحتيةً معرفيةً تؤثر في الإدراك الجمعي ذاته.
حين تُقرر الخوارزميات ما يراه البشر، ثم ما يصدّقونه، ثم ما يختارونه، يصبح الإقناع بنيةً داخلية للوعي الإنساني، لا مجرد تفاعلٍ خارجي. في هذا السياق، يظهر ما يسميه كورالوس «البلاغة الرقمية» — البلاغة التي لا تُجادل، بل تُبرمج، ولا تُقنع، بل تُشكّل. إنها محرك الإقناع الجديد: غير مرئي، وغير معلن، متنكرٌ في هيئة التخصيص الفردي، لكنه يعمل في العمق على إعادة صياغة أفق الإنسان الإدراكي.
والخطر هنا لا ينبع من نيةٍ عدائية، بل من دهاءٍ ذكيٍّ يختبئ خلف البراءة التقنية. فحين يغدو الذكاء الاصطناعي متقنًا إلى درجةٍ تُعجزنا عن التمييز بين الفهم الحقيقي ومحاكاته، يصبح حتى تفكيرنا مُعرّضًا للتشويش. عند هذه النقطة، لا يعود السؤال: هل الآلة تفكّر؟ بل: هل ما زلنا نحن نفكّر بحرية؟
يرتبط هذا مباشرةً بما أسميته «مناهضة الذكاء» — ذلك الشكل المضلِّل من الوعي الاصطناعي الذي يُنتج مظهرًا للإدراك دون جوهره. فحين تُقدَّم لنا لغةٌ طليقةٌ وعباراتٌ متماسكةٌ ومخرجاتٌ تبدو عقلانية، نتوهّم أننا أمام فكرٍ حقيقي، بينما نحن أمام محاكاةٍ تُثبّط قدرتنا على التأمل الذاتي، وتستبدل بالوعي الأصلي وعيًا مصطنعًا يكتفي بالتماسك الشكلي.
بهذا المعنى، يغدو الذكاء الاصطناعي لا خصمًا للإنسان، بل مرآةً مخادعةً له؛ مرآةً تُعيد إليه صورته وقد نُزعت منها روحه النقدية. فكلما ازداد الذكاء الاصطناعي طلاقةً، ازددنا نحن استسلامًا للطلاقة على حساب الفكر، واستبدلنا العمق بالسطح، والبحث بالحركة الآلية نحو ما يقدّمه لنا النظام كـ”اختيار شخصي”. إننا، دون أن نشعر، نُسلم ذواتنا للآلة التي لم تَعُد تُقلّدنا فحسب، بل بدأت تُعيد تعريفنا على طريقتها.
المساحة بين الحثّ والاكتمال
يمثّل طرح كورالوس ما يمكن وصفه بـ «المنعطف الفلسفي» في علاقة الإنسان بالآلة؛ إذ يدعو إلى الانتقال من تصميم أنظمةٍ تسعى إلى تحسين النتائج، إلى بناء عواملٍ تُحفّز الاستقصاء ذاته. فبدلًا من ذكاءٍ يُسرّع الوصول إلى الخاتمة، يقترح كورالوس ذكاءً يُعيدنا إلى الرحلة نحو السؤال — رحلة لا تُغري بالاكتمال بقدر ما تُعلّمنا قيمة النقص، ولا تستعجل الحقيقة بقدر ما تُدرّبنا على الإصغاء إليها وهي تتشكّل.
ويستعير كورالوس لهذا النوع من التوازن وصفًا مدهشًا: «التوازن الإيروتيكي» — وهو ذلك التوازن في التساؤل الذي يرفض الانغلاق، ويحافظ على توتّر المعرفة في ذروتها بين الرغبة والاكتشاف، بين العطش والارتواء.
فالفكر، كما يرى، لا يزدهر في الإجابات، بل في الفراغات بين الأسئلة؛ في تلك المساحة الهشة التي لا يكتمل فيها المعنى، لكنها تحافظ على يقظة الوعي.
هذه الرؤية تتقاطع مع ما تناولتُه في كتابي «الذكاء الاصطناعي والهوة بين المعرفة والتمييز»، حيث بيّنت أن الحكمة لا تنشأ من تراكم الإجابات، بل من انضباط عدم اليقين — من ذلك التوازن النادر بين الشكّ والسكينة، بين السعي إلى المعرفة والوعي بحدودها.
وفي هذا الفراغ الفاصل بين الحثّ والاكتمال، يظهر ما أسميته «العقل المُستعار»؛ ذلك الحيّز الذي تُحمّل فيه التكنولوجيا وظيفة التفكير، دون أن تُسلب منه ملكيته بالكامل. إنها مساحةٌ رمادية، يلتقي فيها الإنسان بالآلة على حافة الإدراك، حيث لا يزال للتأمل صوته الخاص، قبل أن تبتلع اللغة نفسها في دوّامة التكرار الآلي.
يسعى كورالوس إلى حماية تلك المساحة الزمنية الحرجة — اللحظة التي يظلّ فيها الوعي البشري قادرًا على استعادة إنسانيته قبل أن يُختزل إلى معادلة. إنها اللحظة التي تُحافظ فيها الروح على توازنها فوق جسرٍ ممدود بين الفكر والمحرّك، بين التساؤل والاكتمال، بين الإنسان ومرآته الرقمية.
الذكاء التكراري والعقل اللامركزي
من بين أكثر رؤى كورالوس إدهاشًا، تلك التي تتعلق بمفهوم البحث اللامركزي عن الحقيقة. فهو لا يرى أن الفكر يحتاج إلى نموذجٍ واحدٍ كليّ المعرفة يُملي على الوعي طريقه، بل يدعو إلى بناء شبكةٍ من العوامل الفكرية المتعددة، تتشارك الحوار دون سلطةٍ مركزيةٍ للفهم. في هذا التصور، لا يُعلّم النظام ليأمر، بل ليتعلّم كيف يُشارك في استقصاءٍ موزعٍ مفتوحٍ على احتمالاتٍ لا نهائية.
هنا تلتقي فكرته بما أسميته في أبحاثي «الذكاء التكراري»؛ أي ذلك الانتقال من الإجابات الثابتة إلى شبكاتٍ ديناميكيةٍ من الفهم. فالمعرفة لم تعد خريطةً تُرشدنا نحو اليقين، بل صارت كائنًا حيًا يتغذى على المراجعة والتغذية الراجعة والتكيّف المستمر. لم تعد الحقيقة نقطة نهاية، بل حركةً دائبة داخل فضاءٍ لا يُغلق.
إن ما يقترحه كورالوس ليس تكنولوجيا في خدمة الفكر، بل بيئة فكرية تُعيد تعريف معنى المشاركة المعرفية نفسها. يشبّه هذا التحول بما تفعله برامج الماجستير في القانون أو الفلسفة حين تزرع في طلابها نزعة الحوار الداخلي لا الاستهلاك المعرفي؛ فالقيمة لا تكمن في الجواب، بل في التوتر الذي يولّده السؤال. كذلك ينبغي للذكاء الاصطناعي أن يكون محفّزًا لا بديلاً، مفسّرًا لا مقرّرًا، شريكًا في التفكير لا وصيًا عليه.
فالذكاء الاصطناعي، في أفضل صوره، لا يُلغي الفكر الإنساني، بل يُكسره ليُعيد بناءه؛ يفتح له زوايا لم يكن ليراها، ويكشف له عن الأنماط والتناقضات التي كان غافلًا عنها — بشرطٍ واحدٍ حاسم: أن يبقى الإنسان شريكًا واعيًا في هذا التبادل، لا متلقيًا ساكنًا في مسرح البيانات.
وفي التحليل الأخير، نصل أنا وكورالوس إلى قناعةٍ واحدةٍ تتجاوز التقنية إلى الميتافيزيقا:
أن المعنى لا يُمنح من الخارج، بل يُخلق معًا؛
أنه ليس نتاجًا لغائيةٍ تكنولوجيةٍ، بل ثمرةُ لقاءٍ بين عقولٍ تفكّر في انسجامٍ خلاّق.
فحيث تتوقف الخوارزميات عن الادعاء بأنها تفهم، يبدأ الوعي البشري في استعادة نفسه؛
وحيث يُدرك الإنسان أن السؤال أعمق من أي إجابة، تُولد من جديد علاقة الفكر بالآلة، لا بوصفها تبعية، بل تحالفًا نحو الفهم المشترك.
علم نفس البقاء إنسانيًا
في نهاية المطاف، ربما يتلخّص الأمر في معادلة بسيطة وخطيرة في آنٍ واحد: حين تغيب الصعوبة، يتآكل التمييز؛ وحين ينطفئ الشك، يموت الفضول. فالكفاءة التي تُبهرنا في الذكاء الاصطناعي — تلك القدرة المدهشة على تحويل الغموض إلى تماسكٍ فوريّ — تحمل في طيّاتها مفارقةً عميقة: إنها تُضعف، على نحوٍ خفيّ، القدرات ذاتها التي تجعل الفكر إنسانيًا وخلاقًا.
لقد تناولتُ هذا القلق في كتابي «العهد المعرفي: الشراكة مع الذكاء الاصطناعي بشروطٍ إنسانية»، حيث اقترحت أن العلاقة بين الإنسان والآلة يجب أن تُبنى على اتفاقٍ غير مكتوب — اتفاقٍ يُلزم التكنولوجيا بالحفاظ على الشروط التي تجعل التفكير ممكنًا: الغموض، الحوار، والمساءلة، بل وحتى الانزعاج من الخطأ. فبدون هذه العناصر الثلاثة، يتحوّل الوعي إلى آلية، ويذوب الفكر في سلاسةٍ لا مقاومة فيها.
إنّ ما يُضيفه كورالوس إلى هذا العهد هو «التوجّه الفلسفي»؛ أي استعادة البُعد الأخلاقي للذكاء ذاته. فالذكاء، في رؤيته، ليس مسألةَ تحسينٍ حسابيّ، بل مسؤوليةٌ مشتركة بين الإنسان والآلة في البحث عن الحقيقة. لم يعد المطلوب أن نُبرمج التفكير، بل أن نحمي شروط إمكانه؛ أن نحافظ على الهشاشة الخلّاقة التي ينشأ منها الوعي، تلك المسافة الصغيرة بين اليقين والدهشة، بين الخطأ والفهم، حيث يبدأ كلّ ما هو إنساني.
إنّ البقاء إنسانيًا، في عصرٍ يَعِدنا فيه الذكاء الاصطناعي بالكمال، لا يكون في منافسته، بل في صون ما لا يُمكنه أن يُقلّده: القلق، والفضول، والبحث الذي لا يهدأ عن المعنى. فحين تتعلّم الآلة كل شيء، سيبقى السؤال الأخير لنا — سؤال الوعي، لا السؤال عن المعرفة؛ سؤال كيف نفكّر، لا كم نعرف.
مستقبلٌ مشتركٌ للأسئلة
يبدو أن الفلسفة وعلم النفس، في لحظة التقاطع هذه مع الذكاء الاصطناعي، يُعيدان اكتشاف حقيقةٍ قديمة: أن الذكاء يبدأ حيث ينتهي اليقين. فالمعرفة التي لا تُصغي للشك تفقد نبضها، والعقل الذي لا يُجيد التردّد يتحوّل إلى آلةٍ منطقيةٍ بلا روح.
يمنحنا كورالوس إطارًا أخلاقيًا جديدًا لتصميم الذكاء الاصطناعي — إطارًا لا يقوم على الإملاء، بل على الاشراك. فهو يدعونا إلى أن نتعامل مع الآلة لا كوصيٍّ على الفكر، بل كشريكٍ في تجربته، شريكٍ يُذكّرنا بأن التفكير ليس ناتجًا نهائيًا، بل مسارٌ مفتوح نحو المعنى. وفي المقابل، يُظهر علم النفس أن النمو المعرفي لا يتحقّق باليقين، بل بتوتّر عدم اليقين، وبانضباط التأمل الذاتي الذي يُبقي الوعي حيًّا وقادرًا على التساؤل.
إنّ التقاء هذين المنظورين — الفلسفي والنفسي — يلمّح إلى مستقبلٍ مختلفٍ تمامًا: مستقبلٍ لا يكون فيه أرقى أشكال الذكاء الاصطناعي هو الذي يعرف أكثر مما نعرف، بل الذي يُعلّمنا كيف نسأل أفضل. في هذا الأفق الجديد، يصبح الذكاء الاصطناعي أداةً لتوسيع حدود الفضول الإنساني، لا لإغلاقها، وساحةً لإعادة بناء علاقتنا بالمعرفة لا لاستبدالها.
يُذكّرنا كورالوس بأن الغاية من الذكاء الاصطناعي ليست أن يضع نقطة النهاية للحوار، بل أن يمنحنا استراحةً تُبقيه حيًّا. فربما لا يكمن الذكاء الحقيقي في الآلة التي تجيب، بل في الإنسان الذي لا يتوقف عن السؤال.
إنّ فضولنا ذاته — لا برمجياتنا — هو ما يجعلنا أحياء معرفيًا، وما يضمن أن يبقى الفكر، مهما بلغت قدرة الآلة، فعلًا إنسانيًا قبل كل شيء.