لماذا لا شيء ..مهم؟
لقد استغرق البشر عصورًا طويلة حتى استوعبوا مفهوم الصفر. والآن، أصبحت هذه الفكرة حجر الزاوية لعلماء الأعصاب في سعيهم لفهم كيفية إدراك الدماغ للفراغات والغيابات.
لماذا لا شيء.. مهم؟
ترجمة : إقبال عبيد
لقد استغرق البشر عصورًا طويلة حتى استوعبوا مفهوم الصفر. والآن، أصبحت هذه الفكرة حجر الزاوية لعلماء الأعصاب في سعيهم لفهم كيفية إدراك الدماغ للفراغات والغيابات.
حينما أتأمل الطيور، أختبر تجربة فريدة تتكرر أمام عيني. يلفت زملائي من ممارسي مراقبة الطيور أنظارهم إلى أغصان الأشجار، ويطرحون عليّ سؤالًا عما إذا كنت أرى طائرًا يتوارى بين الأوراق. أوجه المنظار نحو قمم الأشجار، لكن، ولإحباط الجميع، لا أكتشف سوى فراغ الطائر.
تتخبط عوالمنا العقلية في زخم تجارب الغياب هذه، ورغم ذلك، يبقى السر محيرًا: كيف يمكن للعقل أن يمارس خدعة عدم رؤية العدم؟ كيف يستطيع الدماغ تمييز وجود شيءٍ ما في غياب أي وجود يُدركه؟
في إطار اهتمام علماء الأعصاب بدراسة الوعي، يُعتبر هذا السؤال محطّ اهتمام بالغ. ومع ذلك، فإن الغوص في الأسس العصبية لمفهوم "العدم" يُشكل تحديًا واضحًا. لكن، لحسن الحظ، توجد أنواع أخرى من الغيابات، الأكثر وضوحًا، التي تساهم في توضيح مسألة العدم الغامضة في الدماغ. ولهذا السبب، قضيتُ جزءًا كبيرًا من دراستي للدكتوراه في استكشاف كيفية إدراكنا للرقم صفر.
لقد اتخذ الصفر مكانة بارزة ومثيرة للإعجاب في مسيرة تطور مجتمعاتنا. عبر عصور التاريخ البشري، واجه الصفر ترددات الحضارات التي تخاف من العدم، بينما ازدهر في تلك التي احتضنته بجرأة. ولكن، هذا لا يمثل وحده سر جاذبيته. إذ يكمن في تشابهه الرائع مع فهم الغياب، ليبقى تمثيل الصفر كرقم في أذهاننا غامضًا ومثيرًا للتفكير. فإذا كانت قدرات دماغي قد تطورت لتتخصص في عدّ البوم المتربص على غصن، فكيف يمكن لهذا النظام الذكي أن يغفل ما هو مرئي، ليشير بدلاً من ذلك إلى ما هو غير موجود من بوم ليتم عدّه؟
قد لا يكون ارتباط إدراك الغياب بمفهوم الصفر محض صدفة، بل قد يُخفي وراءه أبعادًا أعمق. فعندما يُدرك دماغك الصفر، فإنه قد يُفعّل آليات حسية جوهرية تُحدد اللحظات التي تستطيع فيها رؤية شيء، وتلك التي يتعذر عليك فيها ذلك. إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فقد تكتسب نظريات الوعي التي تركز على تجربة الغياب بُعدًا جديدًا، حيث يُعتبر الصفر أداةً رائدة في استكشاف طبيعة الوعي ذاته.
بدأ الرقم صفر كقصة محفورة على طين رطب، حيث قبل نحو 5000 عام في بلاد ما بين النهرين، أبدع السومريون وسيلة ثورية لتدوين الأرقام. عوضًا عن ابتكار رموز جديدة للأعداد المتزايدة بلا هوادة، قاموا بتصميم نظام يتناغم فيه موقع الرمز داخل الرقم مع قيمته. ربما يبدو هذا الأمر معقدًا، لكن يعود سبب ذلك إلى انتشار الفكرة لدرجة أنها قد تُصبح مُبهمة في تفسيرها. لنلقِ نظرة على الرقمين 407 و47، حيث يحتوي كلاهما على الرقم "4"، ومع ذلك، يُمثل الرقم "4" فيهما قيمتين مختلفتين (400 و40 على التوالي). إن فهمنا الصحيح لهذا الرمز يتوقف على العمود الذي يتواجد فيه داخل رقمه (المئات أو العشرات، على سبيل المثال). وبينما قد يُنظر إلى هذا على أنه مجرد تغيير في الصياغة، إلا أن تأثير هذا النظام العددي كان عظيمًا: فقد أتاح تسجيل الأعداد الكبيرة بسرعة وابتكار طرق حسابية بسيطة.
في حقبة معينة، ظهرت إشكالية ملحة: ماذا كان يفعل السومريون عندما يفتقر عمود محدد إلى رقم، كما هو الحال في الرقم 407؟ ومن هنا، انبثق مفهوم الصفر: فقد استحدث السومريون إسفينًا مائلًا بين رقمين ليعبروا عن فكرة "عدم وجود شيء في هذا الموضع".
على الرغم من القوة التي منحها التدوين الموضعي والرمز الرياضي للعدم، إلا أن هذه الفكرة قوبلت بمقاومة شديدة، بل وسخرية لاذعة، عندما انطلقت من حضارة الشرق الأوسط. تركت الحضارات اليونانية وراءها سجلات ضئيلة تتعلق باستخدام الصفر، متمسكة بنظام عددي غير موضعي يشبه إلى حد كبير الأرقام الرومانية. فعلاً، نبذت الطبقة الأرستقراطية اليونانية، الذين نذروا أنفسهم لدراسة الأطر الرياضية، استخدام الصفر بشدة. كانت اليونان موطن الهندسة، حيث سعى علماؤها لوصف العالم من خلال الخطوط والنقاط والزوايا، ولم يكن لمفهوم "العدم" أي أساس واضح. كان ولعهم بالمنطق عائقًا بحد ذاته: كيف يمكن أن يكون العدم شيئًا؟ وقد خلص أرسطو إلى أن العدم ذاته غير موجود – ولا يمكن أن يكون موجودًا.
ساوى القديس أوغسطينوس بينه وبين الشيطان: العدم هو الشر الأعظم.
إلا أن فوائد تدوين الحرفيين ساهمت في انتشار الرقم صفر، رغم تجاهل البعض له. ولهذا، كانت الطبقات العاملة هي التي رسمت مصير هذا الرقم، حيث انتقل من بابل إلى الهند عبر مسارات التجارة في حدود القرن الثالث قبل الميلاد.
على عكس علماء المنطق اليوناني، كان مفهوم العدم متجذرًا في عمق الفلسفة الهندية. ففي تنوع الكلمات التي استخدمها الهنود لوصف "العدم" في سياقات متعددة، مثل ضخامة الفضاء، والأثير، أو الفراغ، يتجلى نظام هندي عميق يعتبر "العدم" ككيان قابل للتعبير عنه بحد ذاته، لا كفقدان لوجود شيء آخر. في هذا السياق الغني، نمت وتوسعت فكرة الصفر. فقد أبدع علماء الفلك والرياضيات، مثل براهماغوبتا، في وضع القوانين الرياضية التي تحكم الصفر. إذ تُظهر المعادلات أن أي عدد يُنقص نفسه يصبح صفرًا، وأن أي عدد يُضرب في الصفر يبقى صفرًا، وما إلى ذلك. لم يعد الصفر مجرد علامة ترقيم تشير إلى فراغ، بل أصبح مفهومًا راسخًا ومتأصلًا، يضاهي الأرقام الأخرى في أهميته.
يُعتقد أن أقدم استخدام موثق للدائرة المجوفة كرمز للصفر يعود إلى مدينة جواليور في قلب الهند خلال عام 876. ومع ذلك، فإن انتشار هذا الرمز بين التجار يدل على أن آثار الصفر السابقة، التي كانت تُدوَّن على الورق أو لحاء الشجر، قد تلاشت في خضم طرق التجارة عبر العصور. ومن خلال هذه المسارات، عاد مفهوم الصفر – في صورته المتطورة – إلى منطقة الشرق الأوسط، قبل أن يدخل دوائر التداول في المجتمع الأوروبي، وذلك بفضل تاجر متجول شاب يُعرف باسم فيبوناتشي. في عام 1202، أطلق فيبوناتشي عمله الرائد "ليبيرا أباتشي" ("كتاب الحساب")، مُقدّمًا فكرة الصفر للجمهور الأوروبي. ومع ذلك، استمر الرفض والسخرية من الصفر. فقد أدت القواعد الغريبة المطلوبة لإجراء الحسابات بالأرقام العربية إلى أخطاء شائعة، بينما وُصِفَ ارتباط الصفر بالعدم بأنه يتعارض تمامًا مع التقوى: ففي نظرهم، بما أن الله خلق الكون من العدم، كان من البديهي تجنب العدم. وقد شبّه القديس أوغسطينوس هذا العدم بالشيطان، مُعتبرًا إياه الشر الأعظم.
مرة أخرى، أثبتت الطبقة العاملة دورها المحوري في تعزيز فائدة الرقم صفر. ومع دخول نظام القيد المزدوج، الذي اعتمده التجار لتدوين إيراداتهم ومصروفاتهم، ترسخت أهمية الصفر في القارة الأوروبية بوضوح. بحلول القرن الخامس عشر، لم يعد بإمكان النخبة المثقفة تجاهل هذا الرقم، وبدأوا في اعتماده بشكل متزايد. والأكثر إثارة للاهتمام، في أواخر القرن السابع عشر، هو أن الرقم صفر مهد الطريق لعالمين بارزين، وهما غوتفريد فيلهلم لايبنتز وإسحاق نيوتن، لصياغة مبادئ حساب التفاضل والتكامل بشكل مستقل. وكان من أبرز تلك المبادئ حساب القيم الدنيا والعليا للدوال الرياضية، مما جعل الصفر عنصرًا أساسيًا لا غنى عنه في هذه الإنجازات.
ظهر أخيرًا شيءٌ جديد من بين ظلال العدم. وكما أشار العالم الموسوعي ليونارد أويلر، "لا تحدث في هذا الكون أحداث إلا ولها دلالات قصوى أو دنيا". قد يحمل هذا الشيء في طياته أسرار الكون العميقة.
يتجلى تأخر استيعاب الأطفال لمفهوم الصفر عبر العصور في عجزهم عن إتقانه. فعلى الرغم من أن الأرقام الموجبة الأخرى تمثل كائنات ملموسة يمكن ملاحظتها في العالم الحقيقي، فإن الصفر يبدو كأنه غير ذي جدوى في عملية العد. وكما قال ألفريد نورث وايتهيد بنبرة فكاهية: "لا أحد يخرج لشراء سمكة الصفر". يتطلب فهم الصفر واستخدامه الانتقال من عالم المادة إلى فضاء المفاهيم المجردة، وقد يكون هذا هو السبب في أن الأطفال يحتاجون إلى وقت أطول لإحراز تقدم في إتقان الصفر مقارنةً بالأعداد القابلة للعد.
في عالم التجارب، يكشف الأطفال حديثو الولادة عن براعتهم المدهشة في تتبع الأعداد التي تظهر أمام أعينهم. فعندما يقوم علماء النفس التنموي بعرض مجموعة من الصور، تحتوي على أربع ألعاب، تصيبهم الدهشة حينما تبرز فجأة خمس ألعاب. وقد أُجريت تجارب مشابهة لاستكشاف قدرة الأطفال الصغار على إجراء حسابات بسيطة بصورة غير مباشرة. فإذا لاحظ طفلٌ في الخامسة من عمره شهامةً تمثل دميةً مختبئة خلف شاشة، فيعتقد وجود دمية أخرى، سيبقى يحدق لفترة أطول إذا ارتفعت الشاشة لتظهر ثلاث دمى، مما يدل على وعيهم الحاد بالعد الصحيحة والخاطئة. ومع ذلك، فإن هذه الموهبة تتلاشى عندما تكون النتيجة صفرًا من الدمى.
مع تقدم الأطفال في مراحل نموهم، يبدأون في إظهار فهم بدائي لعلاقة الصفر بمفهوم "العدم"، إلا أنهم في الوقت نفسه يعجزون عن استيعاب خصائصه العددية بشكل كامل. على سبيل المثال، يبقى أطفال مرحلة ما قبل المدرسة الذين يدركون أن الصفر يعني "عدم وجود أي شيء" يعتقدون أن العدد الواحد هو الأصغر. وعند مطالبته بالتحقق من مقارنة ما إذا كان الصفر أصغر من رقم آخر، يتصرفون كما لو كانوا يتخبطون في ظلمات التخمين. وفي دراسات أخرى، استطاع الأطفال الصغار القيام بمثل هذه المهام المقارنة، ولكن فقط عند استخدام عبارة "لا شيء" بدلاً من "صفر". تعزز هذه الدراسات ارتباط الصفر بالغياب، حيث يظل تصور الصفر كعدد مرتبطاً أولا بفئة "العدم" قبل أن يتبوأ مكانه في بداية سلسلة الأعداد. حتى عندما يتقن البالغون فكرة الصفر كرقم صغير، يبقى هذا المفهوم يثير تحديات معرفية معقدة. على سبيل المثال، يميل الناس إلى الوقوع في أخطاء عند تصنيف الصفر كعدد فردي أو زوجي، على الرغم من إبلاغهم بأنه عدد زوجي في حقيقته. كما أن قراءة الأصفار تستغرق وقتًا أطول من قراءة الأعداد الصغيرة الأخرى، مما يدل على إجهاد أكبر في النظام المعرفي.
ربما تكون قدرتنا على تمثيل الصفر رمزيًا قد تطورت من تمثيلات غير رمزية للغياب.
نظرًا لهذه الخصائص السلوكية، فإنه من المنطقي أن نطرح سؤالاً حول كيفية تجسيد الصفر في الدماغ. لكن هذا التساؤل لم يصبح موضوعًا للدراسة العلمية إلا في الآونة الأخيرة. ففي أقل من عقد من الزمن، اكتشف مختبران مختلفان أدلة متشابهة حول كيفية تمثيل الصفر في أدمغة الرئيسيات غير البشرية. عبر تسجيل النشاط الكهربائي للخلايا العصبية الفردية أثناء عرض أعداد متنوعة من النقاط على القرود، نجح الباحثون في تحديد الخلايا العصبية التي كانت تنجذب بشكل خاص نحو كميات محددة. وقد أظهرت كلتا الدراستين أن بعض الخلايا استجابت للمجموعات الفارغة (النقاط الصفرية) بشكل أكبر من استجابتها لأعداد أخرى من النقاط.اهتمت بعض "الخلايا العصبية الصفرية" بشكل حصري بالمجموعات الفارغة، متجاهلة جميع الأعداد الأخرى بشكل متساوٍ. للمرة الأولى، أثبت الباحثون وجود خلايا عصبية في الدماغ تُشفر الصفر بشكل محدد. ولكن هذا لم يكن كل ما توصلوا إليه؛ إذ اكتشفوا أيضًا خلايا عصبية إضافية للصفر في مقدمة الدماغ، والتي أظهرت نمطًا أكثر تدرجًا في نشاطها: حيث تطلق أكبر كمية من الإشارات عند رؤية القرود لمجموعة فارغة، بينما تُصدر إشارات أقل عند رؤية نقطة واحدة، وأقل بقليل عند رؤية نقطتين، وهكذا. والأكثر أهمية، أن هذه الخلايا العصبية تجسد مفهوم الصفر كرقم في بداية خط الأعداد.
في العام الماضي، أسهمت دراستان جديدتان في تحقيق هدف وصف الأساس العصبي لمفهوم الصفر، ولكن هذه المرة لدى البشر. لقد تمكنت هاتان الدراستان من استكشاف القدرة الفريدة للإنسان على تمثيل الصفر بشكل رمزي، كـ "0". واحدة من الدراسات، التي تناولت نشاط الخلايا العصبية الفردية في أدمغة البشر، أعادت تأكيد نتائج الدراسات السابقة على القرود، ولكن هذه المرة اقتصر البحث على أنماط النقاط والأرقام. كما كشفت الدراسة كيف أن الخلايا العصبية التي استجابت للمجموعات الفارغة أظهرت نوعًا مختلفًا قليلاً من النشاط مقارنة بتلك التي استجابت للأعداد الموجبة من النقاط. نتيجة لهذا الاختلاف، يمكن أن تعكس هذه الخلايا العصبية فئة أكثر عمقًا من "العدم" - في تباين واضح مع "الشيء" - مما يبرز مرة أخرى العلاقة العميقة بين الصفر والغياب.
استكملت هذه الدراسة تجربةً قمت بها مع ستيفن فليمنج، حيث استخدمنا تقنية تخطيط الدماغ المغناطيسي التي تقوم بقياس النشاط المجمّع لآلاف الخلايا العصبية خلال مهام عددية تشمل أصفارًا رمزية ومجموعات فارغة. وقد أظهرت النتائج مرة أخرى أن نشاط مجموعات مختلفة من الخلايا العصبية يدل على أن الصفر يُعتبر في بداية خط الأعداد داخل الدماغ لكلٍّ من المجموعات الفارغة والصفر الرمزي. ومع ذلك، في تجربتنا، كان النشاط الدماغي المرتبط بالمجموعات الفارغة - جزئيًا على الأقل - مشابهًا للنشاط الناتج عن رموز الصفر. وهذا يعزز من جديد الفكرة القائلة بأن قدرتنا على تمثيل مفهوم الصفر قد تكون قد تطورت من تجسيدات أبسط وغير رمزية للغياب.
بجمعها، تبدأ هذه الدراسات بتقديم دليل أولي على وجهة نظر - طرحها لأول مرة عالم الأعصاب أندرياس نيدر عام ٢٠١٦ - مفادها أن تمثيل الدماغ البشري للصفر قد يشترك في خصائص مع قدرة أكثر جوهرية على إدراك "العدم" نفسه.
ما الذي يمكن أن تعنيه إذًا فكرة استيعاب الغياب أو العدم؟ يمكننا تجسيد هذه التجارب في بيئة مختبرية عبر دعوة الأفراد للبحث عن صور مشوهة وسط "الضجيج" البصري: "هل تمكنت من رؤية نمط، أم أن الأمر لم يكن سوى صخب فوضوي؟". وقد تبين أن مسألة ما يلزم لتحقيق إدراك الغياب الحسي - كما يحدث في استيعاب مفهوم الصفر - ليست بالسهولة التي قد تبدو عليها.
الأنظمة الحسية في الدماغ مُصمَّمة لتحديد الأشياء أكثر من غيابها؛ فعندما يتجاوز شيء ما حدود رؤيتك، تنشط خلايا عصبية معينة في القشرة البصرية. كما أن هذا التوجه قد تجلى في الاهتمام الأكاديمي بهذا المجال، حيث تتركز معظم الأبحاث العصبية المتعلقة بالإدراك والوعي على كيفية إدراكنا للأشياء. ومع ذلك، تُعتبر تجارب الغياب جزءًا جوهريًا من وعينا - إذ إننا غالبًا ما نُدرك ما لا يمكننا رؤيته. لذا، فإن الكشف عن الأسس العصبية لهذه الظواهر يُعد بنفس القدر من الأهمية لفهم الآليات التي تُعزز الوعي البشري بشكل شامل.
كما يتجلى تأخر بدء إدراك الطلاقة مع الصفر، يتأخر أيضًا وعي الغيابات الحسية في مراحل لاحقة من مرحلة الطفولة، مقارنةً بفهم السمات الملموسة. ويعزّز هذا المفهوم ما يُعرف بـ "التأثير الإيجابي للسمات"، الذي يوضح أن اكتشاف وجود شيء ما يكون يسيرًا أكثر من اكتشاف عدم وجوده. على سبيل المثال، عندما يتعرف الأطفال في سن الأربعة أشهر على حرف "F"، يفاجأون بظهور الرمز التالي "E"، الذي يحمل خطًا إضافيًا في قاعدته. ولكن عندما يتغير الترتيب ويتبع الحرف المألوف "E" الحرف "F"، لا يظهر على الأطفال أي انزعاج، كأن غياب الخط السفلي لم يُلاحظ بتاتًا. ومن المثير للاهتمام أن هذا يتوازى مع عجز الأطفال الرضع عن تمييز الصفر في التجارب المتعلقة بالدمى التي تم ذكرها سابقًا.
ليس من عادتنا أن ندرك عيبًا في اكتشاف الغيابات.
تمامًا كما هو الحال مع مفهوم الصفر، فإن تحدياتنا في استيعاب الغيابات لا تتلاشى عند البلوغ. عند مراجعة النصوص المكتوبة، يظهر الأفراد قدرة أكبر على اكتشاف الإضافات في الحروف مقارنة بإزالتها؛ فمثلاً، يسهل التعرف على كلمة "ONCE" عند كتابتها بـ "ONGE"، بينما قد تمر كلمة "STRANGER" المكتوبة بـ "STRANCER" دون أن تُلاحظ. وعندما يُعرض على البالغين تسلسلات بصرية، يتجلى لديهم أيضًا تحيز "إيجابي للسمات" يشبه ذلك الذي يُظهره الأطفال. هذه النتيجة تظل قوية عبر مجموعة متنوعة من المحفزات السمعية والبصرية، ويمتد تأثيرها أيضًا إلى عالم الحيوان، بما في ذلك الحمام والجرذان ونحل العسل والقرود، مما يدل على أن إدراك الغيابات يظل في مرتبة ضعيفة بين الأنظمة الإدراكية المتطورة بفعل الطبيعة.
ليس هذا فحسب، بل إن قصر نظرنا في التعرف على الغيابات ليس أمرًا نعيه عادةً. فعندما نعبّر عن عدم رؤيتنا لشيء ما، نجد أنفسنا غالبًا أقل يقينًا مما لو اعتقدنا أننا شهدنا شيئًا بالفعل. ومع ذلك، فإننا نصبح أسوأ أيضًا في تقييم مدى صحة أو خطأ تلك الأحكام المتعلقة بالغياب. باختصار، يصعب علينا أن نحظى برؤية تأملية ذاتية لتجاربنا مع الغياب، مقارنةً بما نختبره من حضور.
إذا كانت الطريقة التي يساند بها الدماغ فهم الغيابات تتميز إلى هذا الحد، فكيف تتشكل تلك التجارب الفريدة من العدم؟ كما هو الحال مع مفهوم الصفر، تُشير الأدلة المتزايدة إلى أن بعض الخلايا العصبية في أدمغة الطيور والقرود والبشر مُعدّة خصيصًا لتجربة الغيابات الإدراكية. في التجارب التي طُلب فيها من الغرابيات وقرود المكاك تحديد ما إذا كان قد تم عرض مُحفّز خافت على الشاشة، شوهدت نشاطات ملحوظة للخلايا العصبية في مناطق مشابهة للقشرة الجبهية لدى البشر قبل أن تُظهر الحيوانات أنها لم تُلاحظ شيئًا. وبالمثل، في حالة البشر، تتفاعل الخلايا العصبية المفردة في القشرة الجدارية بشكل خاص عندما يقرر المشاركون غياب مُحفّز الاهتزاز المطبق على معصمهم.
هل تعكس "خلايا الغياب العصبية" هذه أن الفرد قد اتخذ بالفعل قرارًا بغياب مُحفِّز معين، أم أن لها دورًا في صياغة هذا القرار؟ لا تزال هذه المسألة غامضة. ومع ذلك، يتضح جليًا أن إدراكات الغياب ليست مجرد غياب في النشاط العصبي. بل يبدو أن الدماغ يمتلك آليات فريدة تُجسد من خلالها هذه التجارب الاستثنائية.
ينبغي أن يمتلك الدماغ القدرة على تقييم ما إذا كانت أنظمة انتباهنا في حالة يقظة كافية تمكّننا من اكتشاف الشيء، إذا ما كان موجودًا في الأساس.
تُعتبر هذه الآليات جوهرية لبعض النظريات الجديدة التي تتناول مفهوم الوعي. تُسلِّط هذه النماذج، مثل نظرية مراقبة الواقع الإدراكي (PRM) ونظرية فضاء الحالة العليا (HOSS)، الضوء على العمليات الدماغية التي تحدد ما إذا كان الشيء قد تم رؤيته أم لا. وفقًا لهذه النظريات، هناك آلية عصبية تُفسر النشاط الدماغي في المناطق البصرية وغيرها من المناطق الحسية، تمامًا كما يفعل مُدقِّق الحقائق. تتحقق هذه الآلية من مدى احتواء النشاط الحسي على أنماط موثوقة تشير إلى إدراكك لشيء ما في العالم الخارجي، أو ما إذا كان مجرد ضجيج أو صور ذهنية. والأهم من ذلك، أن هذا النظام لا يبقى ساكنًا عند غياب النشاط الموثوق في المناطق الحسية. بل تدّعي هذه النظريات أن آلية التحقق تعمل بنشاط لتشير إلى غياب الإدراك. وهذا يوضح كيف يمكننا أن ندرك غياب التحفيز.
كيف نتمكن من استشعار الغيابات بدقة عندما لا نجد أي شيء في العالم الخارجي لنلاحظه؟ وفقًا لنموذج وضعه عالم الأعصاب الإدراكي ماتان مازور، لكي نتمكن من استيعاب مفهوم الغياب، يجب علينا أولاً أن نخضع لنمط من التفكير الواقعي المعاكس، مثل "إذا كان الشيء موجودًا، لكنت قد رأيته". وما يثير الدهشة في هذه الصياغة أنها تستدعي الوصول إلى معرفة ذاتية تعكس نظام الإدراك الخاص بالفرد: يجب أن يكون الدماغ مؤهلاً لتحديد ما إذا كان يعمل بشكل سليم، وما إذا كانت أنظمة انتباهنا في حالة تأهب كافية لرصد الشيء أو الصوت المعني إذا كان موجودًا بالفعل. تشير الأدلة التجريبية إلى صحة هذا الادعاء بشكل واضح. في دراسة مثيرة، وُجهت أسئلة للمشاركين حول ما إذا كان هناك حرف مختلط في الضوضاء. فور أن حُجبت رؤيتهم للصورة المُربكة بواسطة خطوط مُغلقة، ارتفع معدل إدراكهم لوجود حرف غير موجود أساسًا. بمعنى آخر، اعتمد الناس على تأملاتهم الذاتية واعتقدوا أن نظامهم البصري سيحول دون اكتشاف الحرف، وقد أخذوا ذلك بعين الاعتبار أثناء اتخاذهم للقرارات.
كل هذا يعيدنا إلى نقطة البداية. السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تُحرِّك الآلية العصبية الأساسية ذاتها تجارب الصفر وفقدان الإدراك؟ إذا كان الجواب بنعم، فإن ذلك سيوضح لنا أنه عندما نشارك في الرياضيات اعتمادًا على الصفر، فإننا نستدعي أيضًا نظامًا إدراكيًا أكثر عمقًا وطبيعية - نظامًا يُعنى، على سبيل المثال، بالكشف عن غياب الطيور أثناء مشاهدتي لها.
تُعتبر الأنظمة العصبية المسؤولة عن استخراج الأرقام الموجبة من محيطنا مفهومة بشكل جيد نسبيًا. لقد تطورت مناطق معينة من القشرة الجدارية لتشكل تمثيلًا عدديًا لـ "الأشياء" التي تحيط بنا، متجاوزةً بذلك المعطيات المتعلقة بطبيعة هذه "الأشياء". فعلى سبيل المثال، سيكتفي هذا النظام بالإشارة إلى "أربعة" في حال رأيت أربع بومات. يُعتقد أن هذا النظام يشكل حجر الزاوية في فهمنا لبنية بيئتنا. وإذا ما وُجد أن الأنظمة العصبية التي تتحكم في قدرتنا على إدراك ما إذا كنا نرى شيئًا بوعي أم لا تعتمد على نفس هذه الآلية، فقد تُعزز ذلك نظريات مثل HOSS وPRM في سعيها لفهم كيفية نشوء هذه القدرة بدقة. ربما، في خضم تعلم هذا النظام لبنية نظامنا البيئي وانتظامه، يتعلم أيضًا كيفية بنية النشاط الحسي في دماغنا، مما يعيننا على تحديد زمن رؤية شيء ما. وهذا ما تتوقعه بالفعل كل من نظريتي PRM وHOSS، إن ترسيخ هذه الأفكار ضمن أطر واضحة حول كيفية عمل الدماغ قد يضفي عليها قوة أكبر في تفصيل الآليات الدقيقة التي تمكننا من إدراك العالم المحيط بنا. ومن بين الفرضيات المثيرة للاهتمام التي تستلهم من هذه الأفكار، نجد أنه إذا كان أساس الدماغ لمفهوم الصفر يعتمد على أنواع الآليات العصبية المتعلقة بالغياب التي تعتبرها الأطر المذكورة ضرورية للتجربة الواعية، فإن أي كائن حي ليتمكن من استثمار مفهوم الصفر بنجاح، قد يتطلب أولاً أن يكون واعيًا إدراكيًا. وهذا يعني أن إدراك الصفر يمكن أن يُعتبر بمثابة دلالة على الوعي. وعلى الرغم من أن الدراسات أثبتت أن نحل العسل يمتلك تصورا بدائيا لمفهوم الصفر، فقد يبدو هذا الأمر بعيد المنال لبعض الأشخاص. ومع ذلك، فإن الإشارة إلى أوجه التشابه بين الغيابات العددية والإدراكية قد تكشف عن أساس عصبي لا يقتصر فقط على تجارب الغياب بل يمتد ليشمل الوعي الواعي بشكل أوسع. وقد أكد جان بول سارتر أن العدم هو جوهر الوجود، في نهاية المطاف.
ساهم تطور الرقم صفر في إزاحة الستار عن أسرار الكون الغامضة. وما زلنا نتساءل عما إذا كان بإمكانه أيضًا إلقاء الضوء على أسرار العقل البشري. في هذه اللحظة، على الأقل، خفف هذا الاكتشاف من إحباطي تجاه إخفاقاتي في رصد الطيور. أدركت الآن أن هناك عمقًا معقدًا في عدم رؤية أي شيء، والأهم من ذلك، أن ما لا يُرى قد لا يعني شيئًا حقًا.