الشفاء مما لا يمكننا نسيانه
أرغب في الشفاء. لا زلت أردد في داخلي أنني أسعى للتقدم نحو حياة جديدة. لكن الحقيقة المؤلمة هي أنني عالق في فخ ذكريات لا أستطيع التملص منها. هناك أيام أجد نفسي أحاول جاهدًا تجاهلها، باحثًا عن أي شيء يشغلني، أي شيء يبعدني عن تلك اللحظات الأليمة. ولكن، رغم محاولاتي لملء أيامي بأمور مختلفة، فإنها تتسلل إلى ذهني مرة أخرى. إنها تعود دائمًا، مهما اجتهدت في دفعها بعيدًا، وكأنها أمواج لا ترحم، تتكرر بلا هوادة، لتذكرني بشيء لا أستطيع الفرار منه.
كنت أظن أن الشفاء يشبه إعادة بناء كائن محطم... شيء يمكن إصلاحه وتجميعه من جديد، وربما يصبح أكثر قوة في تلك العملية. لكنني كنت في خطأ. الشفاء لا يسير على هذا النحو. إنه يشبه تعلم العيش مع جرح لا يندمل تمامًا. يتعلق الأمر بكيفية الاستمرار في الحياة، حتى عندما لا يزال الألم موجودًا، وحتى عندما يكون تحت السطح، مهددًا بالظهور في أي لحظة. إنه فن التنفس وسط الألم، رغم أنه لا يزول أبدًا.
أتمنى لو أستطيع القول إن الألم يتلاشى مع مرور الزمن، لكن ذلك سيكون مجرد وهم. هناك أيام تكون فيها الأمور أفضل، نعم، ففي بعض اللحظات، أشعر أن عبء الألم أخف. يمكنني قضاء يوم دون أن يستحوذ عليّ شبح الماضي، دون أن ألتفت إلى ما كان. لكن، ما إن أظن أنني في أمان، حتى يظهر شيء ليعيدني إلى الوراء. عطر أو لحن أو مكان، ويفاجئني كل شيء مجددًا. كأنني أسير في ممرات الزمن، محبوس في حلقة مفرغة من الذكريات التي تعيقني عن التقدم. وأتساءل في حيرة، كيف لي أن أتعافى والماضي دائمًا يتربص بي، يذكرني بكل ما لا أستطيع تغييره؟
قد يكون هذا هو أكثر الأجزاء تعقيدًا. إن الشفاء لا يتجلى من خلال إغلاق الأبواب أو إيجاد إجابات أو استيعاب الأمور. إنه لا يأتي كما توقعت، ولا يحمل بين طياته نهايات مرتبة لهذا النوع من الألم. فلا توجد طرق لنسج خيوطه في شبكة منطقية واضحة. بعض الجروح لا تأتي مع حكاية تنتهي بحل جميع الألغاز. تبقى بعض الأمور عالقة، مفتوحة على مصراعيها، بلا نهاية، ولا حل، تاركة لك فقط عبء الألم. لقد عشت مع أشباح ما كان وما لن يعود إلى الوجود مجددا.
ثم هناك شعور الذنب. ذلك الإحساس العميق بالندم الذي يعتصر قلبي بسبب عدم قدرتي على تحرير نفسي من ذكريات ومشاعر معينة، على الرغم من إدراكي التام بضرورة ذلك. أشعر بالذنب لاحتفاظي بهذه الأحمال الثقيلة، مذنب لعدم تمكني من المضي قدمًا بالسرعة المطلوبة، مذنب لفقدان شيء قد مضى عليه زمن طويل. كأنني أخون ذاتي حينما أعجز عن الشفاء تمامًا، بسب عدم قدرتي على إيداع كل ما يؤلمني في الماضي حيث يجب أن يبقى. ومع ذلك، مهما كررت على نفسي أن أنسى، وأن أوقف الاهتمام، وأن أبتعد عن التوق إلى ما لم يعد له وجود، فإن كل ذلك يظل عبثًا. ليس هناك جدوى من ذلك.
لأسعى جاهدًا نحو الشفاء باستمرار، رغم إدراكي العميق بأنني لن أبلغ تمام الشفاء من هذا الألم. لا زالت تأملاتي تتجه نحو يومٍ قد أستيقظ فيه، حيث أجد أن الوجع قد بات أكثر بُعدًا وأقل حدة. ربما سأستطيع حينها أن أستعرض الماضي وأشعر بنوع من السكون، وقبول أن تلك التجارب قد تشكلت منها هويتي الحالية. لكن، كلما زادت محاولاتي، أدركت أن الماضي ليس مجرد محطة يمكن مغادرتها. إنه جزء لا يتجزأ مني، يتشبث بي بغض النظر عن رغبتي في ذلك. وكلما نازعت هذا الحضور، ازدادت قوتي أمامه.
أرى أن هذا هو جوهر الشفاء الحقيقي في نهاية المطاف. ليس في محو الماضي أو التظاهر بأنه لم يكن موجودًا، بل في اكتساب القدرة على التعايش معه. تعلم كيف تمضي قدمًا رغم أن قلبك قد يتصدع، وكيف تعبر عن الحب، وترتسم الابتسامة على وجهك، وتكتشف الفرح في تفاصيل الحياة الصغيرة، حتى وإن كان هناك جزء من روحك يحمل دائمًا أثقال الألم.
قد لا يكون الأمر مجرد نسيان. بل قد يكون الأمر متعلقًا بقبول حقيقة أن هناك أمورًا نُحِتت في صخر الزمن لا يمكننا تغييرها، وأن ثمة جوانب من حياتنا ستظل تسبب لنا الألم دائمًا. ومع ذلك، ينبغي علينا أن نكتشف وسيلة لنواصل السير في دروب الحياة. ربما تكون هذه الوسيلة هي السبيل الوحيد للشفاء من جراح لا يمكننا محوها.
إنه لأمر مؤلم حقًا. إنه ليس بالعدل. إنه يبعث على الصعوبة. ومع ذلك، أجد، بطريقة غريبة، أن عملية الشفاء تتعلق بتعلم كيفية التعايش مع هذا الألم، دون أن ندعّه ينهش في جوانبنا. إنها تتعلق بإدراكنا أننا نستطيع تحمل ثقل أحزاننا وفقداننا، بالإضافة إلى جراحنا وانكساراتنا، وما زلنا نستطيع أن نجد السبل للمضي قدمًا في دروب الحياة.
حتى لو لم ننسى
حتى لو لم نتعافى حقًا.
https://medium.com/@havendiaries/healing-from-what-we-cannot-forget-bb0c46f49974