كتابة : روزا روسي
ترجمة : إقبال عبيد
يُعَدّ الكتاب الأحمر لكارل غوستاف يونغ إحدى أكثر الصفحات غموضًا وإثارة في تاريخ الفكر النفسي، إذ يفتح نافذة غير مألوفة على أعماق روحه المتمرّدة.
ترك هذا الطبيب والمحلّل النفسي السويسري، الذي عاش أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إرثًا معرفيًا معقّدًا ومتشعّبًا، ارتبط أولًا بظلّ أستاذه سيغموند فرويد، قبل أن يشقّ طريقًا مستقلاً قاده إلى صياغة ما يُعرف اليوم بـ علم نفس يونغ. لقد بلور رؤىً فريدة حول رمزية النفس، وأصل النماذج الأولية، وصلتها الوثيقة بالروح الإنسانية، فظلّت أفكاره حتى يومنا هذا مرجعًا للأطباء النفسيين والباحثين في شؤون العقل والروح.
غير أنّ أغرب ما خلّفه يونغ وأكثره إثارة للدهشة، كان مشروعًا استغرق سنوات من التدوين والتأمل، وحمل عنوان الكتاب الأحمر (Liber Novus). إنه مجلد مهيب، خطّه بيده، وانصرف فيه إلى رسم خرائط رحلته الداخلية المليئة بالهلوسة والرؤى والرموز الغامضة. لم يكن نصًا عاديًا بقدر ما كان تجربة روحية ـ نفسية صادمة، تتيح للقارئ أن يطلّ على الباطن العميق لعقلٍ يُصارع نفسه، ويبحث عن معنى الوجود في دهاليز اللاوعي.
١. الكتاب الأحمر عمل يدوي استثنائي
منذ صباه المبكر، وتحديدًا في سن الحادية عشرة، اعتاد كارل يونغ أن يخطّ مذكراته بانتظام، كأنما كان يهيئ نفسه لعمل أعظم سيأتي لاحقًا. وقد تجلّى هذا العمل في ما عُرف لاحقًا بـ الكتاب الأحمر (Liber Novus)، ذلك السفر الفريد الذي صاغه بيديه وصبغ فيه تجاربه النفسية والروحية بألوان مكثفة. ففي أواخر عقده الثالث، أوعز إلى أحد المجلّدين بصناعة مجلد ضخم، مكسوّ بالجلد الأحمر ومهيّأ بصفحات بيضاء عريضة تنتظر الحبر. هناك شرع يونغ في كتابة نصوصه الممهورة بالرموز والرؤى، فكانت تارة مذكرات شخصية حميمة، وتارة أخرى انسيابًا حرًّا لما أطلق عليه الخيال النشط؛ وهو منهج ارتآه وسيلة لمخاطبة أعماق اللاوعي واستدعاء صوره الدفينة. وقد وصف يونغ هذا العمل المهيب بأنه “مواجهة مباشرة مع اللاوعي”، كاشفًا بذلك عن طابعه اليومي المتكرر، وكأنّه تمرين دائم على الغوص في أغوار النفس البشرية.
٢. ستة عشر عامًا من الانغماس والخلق
لم يكن الكتاب الأحمر ثمرة لحظة عابرة أو نزوة فكرية عابرة، بل كان حصيلة مسيرة امتدت ستة عشر عامًا متواصلة، ما بين عامي 1914 و1930. في تلك الفترة الطويلة، كان كارل يونغ ينكبّ على المخطوطة الجلدية الفاخرة، يخطّها بيده خطًا قوطياً مهيبًا، يتسم بدقة وإتقان يشيان بجلال التجربة. ولم يكتف بالكتابة وحدها، بل زيّن الصفحات برسومات توضيحية وزخارف بالغة العناية، جاءت وكأنها أيقونات مرسومة بيد فنان رؤيوي، لا مجرد عالم نفس. هذه الحرفية العالية وهذا الجمع بين الفكر والرمز والصورة، جعل النقاد يشبّهون عمل يونغ بروائع التراث الإنساني مثل كتاب كيلز المضيء، وأعمال الفنان الرؤيوي ويليام بليك، حيث تتزاوج الكلمة بالصورة لتصنع سفرًا روحانيًا يتجاوز حدود الزمان والمكان.
٣. رحلة إلى أغوار الروح
لم يكن الكتاب الأحمر مجرّد مشروع فكري أو تجربة فنية، بل كان بالدرجة الأولى رحلة علاجية داخلية خاضها كارل يونغ في أحلك فترات حياته، حينما تعرّض لسلسلة من الأزمات الوجودية التي زلزلت يقينه وأفقدته شعور الاتصال بروحه الباطنية. وبرغم مكانته الراسخة كمحلل نفسي مرموق وناجح، أدرك أن نجاحه الخارجي لم يعفِه من خواء داخلي يزداد قسوة، فالتفت إلى ذاته في محاولة لإحياء ما أسماه بـ روح الأعماق.
في تلك المرحلة الغامرة بالتحليل الذاتي العميق، ألقى يونغ بنفسه في عوالم أحلامه وصوره الرمزية، مستسلمًا لحالات من الغيبوبة التأملية، ومجربًا أحيانًا عقاقير تثير الهلوسة، علّها تفتح له أبواب اللاوعي المغلقة. فجاءت النتيجة مزيجًا من الرؤى السريالية والمخلوقات العجائبية، بعضها فظيع ووحشي، وبعضها يكشف عن ومضات نورانية خفية. وقد صاغ يونغ هذه الرحلات الغامرة كتابةً ورسماً، فامتلأت صفحات الكتاب برسوم توضيحية دقيقة التفاصيل، تجسّد ذلك العالم الداخلي المائج بالرموز والوحوش والكيانات الأسطورية، كأنها خريطة مرسومة لروح في صراع مع ذاتها.
٤. سفرٌ مخبوء عن العيون طويلاً
على الرغم من أن كارل يونغ كان يرى في الكتاب الأحمر ذروة نتاجه الفكري والروحي، بل واعتبره في سره أهم أعمال حياته، إلا أنه اختار أن يُبقيه بعيدًا عن الأعين. فقد كان يخشى ـ كما كتب في خاتمة المخطوطة ـ أن يبدو العمل للقراء السطحيين ضربًا من الجنون الصريح: «سيبدو للمشاهد العابر كأنه جنون». لذا أخفى هذا السفر الغامض طوال حياته، وتركه كسرٍّ شخصي بينه وبين روحه.
وبعد رحيله، لم يجد الورثة بدًّا من التحفّظ عليه، فأودعوه عام 1984 في خزائن مصرفية محكمة الإغلاق، خشية أن يلطّخ نشره سمعة يونغ العلمية كمحلّل نفسي رائد. ظلّ الكتاب إذن ككنزٍ منسيّ، لا يجرؤ على الاقتراب منه إلا القليل النادر من الباحثين، وكأن الهالة التي تحيط به لم تكن مجرد أوراق مكتوبة، بل طاقة غامضة تستعصي على التداول العادي. وحتى يومنا هذا، لم تطأ أعين كثيرة المخطوطة الأصلية، التي بقيت عصيّة على العموم، حافظةً سرّ التجربة التي أراد يونغ أن تبقى محصورة بينه وبين لاوعيه.
٥. انبعاث الكتاب إلى النور عام ٢٠٠٩
بعد عقودٍ من الصمت والكتمان، وبعد أن ظلّ الكتاب الأحمر حبيس خزائن مغلقة، شاءت الأقدار أن يُكشف عنه أخيرًا. فقد منحت أسرة كارل يونغ إذنًا خاصًا للباحث سونو شامداساني، أستاذ تاريخ علم النفس في كلية لندن الجامعية، ليطّلع على المخطوطة السرية ويكرّس نفسه لإخراجها إلى العلن. كان هذا التفويض بمثابة فتح لبابٍ ظلّ موصدًا لعقود، إذ أوكِل إليه أمر تحرير الكتاب وإعداده للنشر للمرة الأولى.
كرّس شامداساني ثلاثة عشر عامًا كاملة من عمره في تحقيق النصوص وتنظيمها، جامعًا بين الأمانة العلمية والدقة التاريخية، حتى خرج المجلد أخيرًا إلى النور عام 2009 عن دار النشر الأمريكية W. W. Norton Press. وقد مثّل صدور الكتاب حدثًا عالميًا استثنائيًا، إذ بات هذا السفر النفسي ـ الذي كان طيّ الكتمان لعقود ـ متاحًا للقراء والباحثين في كل أنحاء العالم، ليطّلعوا على أعماق يونغ في أكثر لحظاته جرأةً وعُريًا أمام ذاته.
مقال جميل