ما يمكننا أن نقدّمه لبعضنا البعض: قراءة في كتاب "أصوات الكلام" لأوكتافيا بتلر
آرون بوهمر يتأمل في الأمل الكامن في التواصل الإنساني
ما يمكننا أن نقدّمه لبعضنا البعض: قراءة في كتاب "أصوات الكلام" لأوكتافيا بتلر
آرون بوهمر يتأمل في الأمل الكامن في التواصل الإنساني
ترجمة : إقبال عبيد
في عام 1983، نشرت أوكتافيا إي. بتلر قصتها "أصوات الكلام" في مجلة أسيموف للخيال العلمي، وهي القصة القصيرة التي نالت عنها بعد عام أولى جوائز هوغو. وقد وصفت بتلر هذه القصة، في خاتمتها، بأنها كُتبت "بتعبٍ وكآبةٍ وحزن"، و"بأملٍ ضئيل، أو شغفٍ يكاد يتلاشى بالبشر"، وتنتهي بنهاية لم تكن تتوقعها الكاتبة: لا خلاص فيها، بل ومضة هدفٍ تنتزع من بين الركام.
تدور أحداث "أصوات الكلام" في لوس أنجلوس، في مستقبلٍ قريب، اجتاحه فيروس غريب سلب البشر قدرتهم على الكلام، والقراءة، والكتابة. بعضهم ما يزال قادراً على النطق، لكنه لا يقرأ ولا يكتب، وبعضهم يكتب أو يقرأ دون أن يقدر على الحديث. أما أشكال التواصل الفعّال، فقد أصبحت نادرة، تاركةً البشرية ممزقة الأوصال، يعصف بها الصمت وسوء الفهم. يتكرر حضور العزلة والخوف في كل مشهد، يهزّان كل بارقة أملٍ متبقية. الجار ينهار في الغريب، والغريب يتحوّل إلى "آخر"، والآخر... تهديدٌ طاغٍ يُطوّق النفس من كل الجهات.
تصبح الإيماءات، والرموز، وحتى التذمر العابر، الوسائل المتبقية لفهم بعضنا البعض، لكن هذه الوسائل نفسها كثيرًا ما تُفضي إلى سوء الفهم بدلًا من تقريبه.
ما تصوّره بتلر ليس مجرّد ديستوبيا متخيّلة، بل هو امتداد منطقي لأنظمة قائمة منذ زمن بعيد. فالعنف، والخوف، والعزلة المتفاقمة، وتخلّي الدولة عن أكثر الفئات هشاشة، كما جاء في رواية أصوات الكلام، ليست نبوءات مستقبلية فحسب، بل إشارات دقيقة إلى حاضر يتآكل بصمت. في هذا الإطار، تفتتح بتلر قصتها بسوء فهم، بسيط في ظاهره، لكنه كفيل بأن يشعل شرارة الانهيار.
البطلة، فاليري راي، تنطلق في رحلة إلى باسادينا – مسقط رأس بتلر – بحثًا عن آخر ما تبقّى من أفراد عائلتها. تستقلّ حافلة المترو، في مصادفة نادرة، وسط انهيار منظومة النقل العام. لكن ما بدا كضربة حظ، ينقلب إلى مشهد مصغر للفوضى الشاملة: شجار بين راكبين ينفجر من سوء فهم بسيط، يتعذّر فضّه لانعدام أدوات التواصل.
كانت الرحلة ذهابًا وإيابًا في يومٍ واحد – إن حالفها الحظ. بدا وصول الحافلة عند مغادرتها منزلها في شارع فيرجينيا رود وكأنه نعمة عابرة... حتى بدأ الشجار.
شابان كانا متورطين في خلاف ما، أو على الأرجح، في لبسٍ تافه. وقفا في الممر يتذمّران ويشيران إلى بعضهما، كلٌ منهما يتخذ وضعية "T" المرتبكة، فيما كانت الحافلة تتمايل فوق الحفر. السائق كان بالكاد يُبقيهما على أقدامهما، غير أن الإشارات سرعان ما تحوّلت إلى تهديدات صامتة: قبضات مشدودة، ووميض غضب يُستبدَل فيه السباب بالإيماءات العدائية، تعويضًا عن لعنات لم يعُد ممكناً نطقها.
تترك لنا بتلر، إلى حدٍّ كبير، مهمة التأمل في ماهية الفيروس الذي ربما تسبّب في هذه الأزمة، مكتفية بإشارة ساخرة من راي حول احتمالية أن يكون الأمريكيون قد وجدوا طريقة ما لإلقاء اللوم على الاتحاد السوفيتي. وإذا كان وباء كوفيد-19 – الذي لا يزال يحصد الأرواح حتى اليوم، وإن لم يكن بسبب "أيّ شيوعيين" – يصلح كتشبيه، فإن الواقع لم يترك للخيال مجالًا كبيرًا للتكهّن بمن يتحمّل مسؤولية تفاقم الأزمة: حوكمة متخبطة، ولا مساواة متجذّرة، وثقافة فردانية متطرفة، ونظام رأسمالي عنصري شامل يُغذّي كل ما سبق.
في سياق القصة، لا يُعدّ سوء الفهم بين الرجلين في الحافلة – ثم شجارهما لاحقًا – مجرد حدث عرضي. بل هو، أولًا، نتيجة مصطنعة لغياب أدوات الفهم المشترك، وثانيًا، انعكاس دقيق للعواقب المعزولة التي تفرزها بنية اجتماعية عنصرية وفردانية في وقتٍ يتطلّب استجابة جماعية. تنجح بتلر هنا في التقاط صورة لمجتمعٍ لا تراه كمستقبل محتمل، بل كاستمرار لماضٍ قريب، ومرآة حادّة لحاضرها.
إن ما يحدث داخل الحافلة ليس سوى تجلٍّ بسيط لمجتمعٍ فقد قدرته – وموارده – على ممارسة الرعاية الجماعية.
عند قراءة أصوات الكلام اليوم، من الصعب ألا نربط بين هذه الديناميكيات الروائية وواقعنا الملموس. موجات الاعتقالات والمداهمات الأخيرة التي تنفّذها دائرة الهجرة والجمارك، والتي ما تزال تُفكك العائلات باسم "القانون والنظام". الإبادة الجماعية المستمرة في فلسطين، والسودان، والكونغو، والمُنفَّذة بأسلحة وتمويل أمريكي. الاعتداءات المتكررة على حق النساء والمتحولين جنسيًا في الحصول على الرعاية الصحية.
كل ذلك يبرهن أن ما صوّرته بتلر لم يكن ديستوبيا متخيّلة، بل ثمرة منطقية لأنظمة قائمة منذ عقود. فالعنف، والخوف، والعزلة التي تنشأ عن تلك الأنظمة، وتخلّي الدولة عن الفئات الأضعف، كما جسّدته في أصوات الكلام، لم تكن مجرد رؤى مستقبلية حادّة؛ بل توصيفًا دقيقًا للعالم كما عرفته بتلر عام 1983، وكما نعيشه نحن اليوم في عام 2025.
في مقالٍ نُشر في مجلة نيويوركر بعنوان "دروس لنهاية العالم"، تأملت الكاتبة حنيف عبد الرقيب في مفاهيم النهاية، والذاكرة، والشفاء – مستشهدةً بنيكي جيوفاني وبتلر، ومتأملةً في حرائق لوس أنجلوس الأخيرة، ومرتكزةً على سلسلة "أمثال" الشهيرة لبتلر، والتي صدرت بعد عقد من أصوات الكلام. في هذا المقال، تقدّم عبد الرقيب توضيحًا جوهريًا حول المستقبل كما تخيّلته بتلر:
لم تكن الحرائق، ولا تفشّي المخدرات، ولا انخفاض معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، من ابتكارات بتلر الخيالية. هذه المشكلات كانت حاضرة بوضوح أمام عينيها. ما تخيّلته في سلسلة الزارعة، هو مستقبل تتطلب فيه النجاة من المستحيل تقريبًا نوعًا جديدًا من البراعة: براعة عاطفية، تُجبر الإنسان على التخلّي عن أنانيته، والتساؤل عمّا إذا كان يملك شيئًا يحتاجه الآخر. من هنا تبدأ المساعدة المتبادلة. ليس من موقع العطاء النبيل، بل من سؤال وجودي بسيط: ما الذي أملكه وقد يُنقذ غيري؟
هذا هو السؤال الذي تطرحه بتلر أيضًا في أصوات الكلام. في البداية، يبدو أن راي وجيرانها لا يملكون ما يقدّمونه لبعضهم البعض، بعدما فقدوا كل شيء تقريبًا – حتى وجود الأسرة لم يعُد أمرًا مُسلّمًا به. ومع كل لحظة تواصل إنساني نادرة تتحوّل إلى عنف، تنكمش راي على ذاتها أكثر فأكثر، وتنسحب من العالم.
في هذا الانغلاق، تمثّل راي شخصية بتلر ذاتها، التي كتبت في خاتمة القصة، متأملةً مصدر إلهامها الحقيقي – شجارًا كانت قد شهدته بنفسها داخل حافلة:
"جلستُ مكاني، أكثر اكتئابًا من أي وقتٍ مضى، أكره هذا الوضع البائس والغبي، وأتساءل: هل سينضج الجنس البشري يومًا بما يكفي ليتعلّم كيف يتواصل دون أن يضطر إلى استخدام أي نوع من اللكمات؟"
من المهم ألا نتجاهل هذا الشعور باليأس والازدراء؛ لكنه، في الوقت نفسه، ليس كل شيء. المهم حقًا هو: أين نضع هذا اليأس؟
أظن أن هذا هو ما أرادت بتلر أن تدفعنا إليه من خلال أصوات الكلام: لا أن نُنكِر الوحشية، بل أن نُفكّر في كيفية النجاة منها، سويًا.
طوال معظم القصة، كانت راي وحيدة — حزينة، خائبة، متحفّظة، وحذرة من كل شيء. وعندما قبلت توصيلة من رجل تُطلق عليه اسم "أوبسيديان"، لم يكن ذلك بدافع الثقة، بل نتيجة للضرورة. ومع ذلك، شيئًا فشيئًا، يحدث ما يشبه التحوّل بينهما. دون تبادل كلمة واحدة، وجدا وسيلة للتواصل، والتعاون، وبناء صلة — هشّة، مؤقتة، لكنها حقيقية. ومن خلال هذا التقارب الإنساني الخافت، ترسم بتلر صورة للارتباط الإنساني بوصفه قوّة مذهلة وسط الفوضى الشاملة.
"هزّت كتفيها، ونقرت على كتفه، ثم على كتفها، وضمت إصبعيها السبابة والسبابة بقوة، لتتأكد.
أمسك بالإصبعين وأومأ برأسه. كان معها."
أخذت راي منه الخريطة، وألقتها على لوحة القيادة، ثم أشارت إلى الجنوب الغربي — عائدةً إلى ما تبقّى من مفهوم "البيت". لم تعد بحاجة إلى الذهاب إلى باسادينا. لم تعد بحاجة إلى أن تعرف إن كانت وحيدة كما كانت تخشى. الآن، لم تعُد وحيدة.
لكن... سرعان ما انهار هذا الرابط الطارئ. أوقف أوبسيديان السيارة، وقُتل بينما كان يحاول منع رجلٍ من قتل امرأة. وفي اللحظة ذاتها، وجدت راي أطفال المرأة المقتولة — ولدهشتها، كانوا ما يزالون قادرين على الكلام.
عند هذه النقطة، يتغيّر المحور: ما يهم لم يعُد "رؤية كبرى لإعادة بناء العالم" أو "حلم بإحياء المجتمع القديم"، بل تلك المسؤولية الفورية أمامها: نجاة الأطفال.
وبتحمّلها هذه المسؤولية، تبدأ راي باستعادة ذاتها المنسية — ذلك الامتداد الإنساني الذي دفنته تحت ثقل الألم والخسارة:
"كانت معلّمة. معلّمة بارعة. وكانت حامية — وإن لم تكن تدافع عن نفسها.
حافظت على حياتها حين لم يكن لديها سبب للعيش.
وإذا ترك المرض هؤلاء الأطفال وشأنهم، فبإمكانها الحفاظ عليهم."
في أصوات الكلام، لا تقدّم بتلر أملًا تقليديًا وسط الكارثة، وربما لم تكن تشعر بأي أملٍ أصلاً. لكنها تصرّ على أن حتى في عالمٍ منزوع من معانيه، لا يزال هناك ما يمكن فعله. لا يزال هناك موضع للرعاية، ولأفعال صغيرة تُحدث فارقًا، حتى وإن كانت هشّة أو مهددة.
لا خلاص قادم من السماء.
لا عودة إلى الوضع الطبيعي.
الموجود هو الاختيار: أن نبني شيئًا، مهما كان ضئيلًا، أن نُدرك احتياجاتنا واحتياجات من حولنا، ونعمل على تلبيتها.
فبينما يبدو أن الهلاك قد كُتب علينا، فنحن — كما تقول عبد الرقيب — "مُدانون بتحديد نوع الكارثة التي نرغب بها".
وقد يكون البقاء، إذا ما كُتب لنا، بقاءً جماعيًا لا فرديًا.
وفي هذا النوع من النجاة، لا يعود الأمل شعورًا مجردًا، بل فعلًا، وأداة — صوتًا يُصدر، وصوتًا يُسمع.
وحين وصلت بتلر إلى خاتمة القصة، كتبت ببساطة:
"عاد أملي.
يبدو أنه يفعل ذلك دائمًا."