ترجمة : إقبال عبيد
كيف يمكن لشكسبير أن يكون عونًا لنا في مواجهة عزلتنا داخل هذا العصر الرقمي الموحش؟
إنّ مسرحية هاملت، وهي من أعرق المآسي التي شهدتها خشبات المسرح، تجسّد آلامًا لا تزال حيّة في وجداننا المعاصر. فهي ليست مجرد حكاية أميرٍ متردّد، بل مرآة تصوّر صراع الإنسان مع قوى القهر والمراقبة، ومع شوقه العميق إلى الحرية والانتماء.
أأنت أسيرُ التصفّح اللانهائي؟ أتجد نفسك محاطًا بخوارزميات هاتفك الذكي، التي تضيّق عليك المساحة كما يضيق السجن على نزيله؟ لعلّ المسرح، بما يحمله من صدقٍ إنساني وفضاءٍ حيّ، يكون المنفذ الأرحب والملجأ الأصدق.
"الدنمارك سجن"، هكذا يصرّح هاملت في واحد من أشهر المشاهد، مخاطبًا صديقيه روزنكرانتس وغيلدنسترن وقد ارتضيا أن يكونا أداةً بيد البلاط لمراقبته والتجسس عليه. هنا، لا تبقى كلمات شكسبير حبيسة التاريخ، بل تتحوّل إلى نداء يتردّد في عصرنا، حيث السجون لم تعد جدرانًا من حجر، بل شبكات من شاشات وخوارزميات.
لم يكن هاملت سجينًا بالمعنى الحرفي، غير أنّه عاش حصارًا خانقًا فرضته عليه ظروفه. لقد أدرك أنّ عمَّه ارتكب جريمة قتل والده، ثم أسرع ليتزوج أمَّه ويستولي على عرش الدنمارك. وبين أروقة القصر الموبوءة بالمؤامرات، وجد نفسه مراقَبًا في كل لحظة، يتطلّع إلى الفكاك من عيون البلاط المتربّصة.
وبعد مرور أكثر من أربعة قرون على أول عرض لهذه المأساة الخالدة، يحذّرنا الخبراء من أنّنا نحن أيضًا وقعنا في أسرٍ جديد: أسر الهواتف الذكية. لقد تحوّل سلوكنا على الإنترنت إلى سلعة قابلة للتسويق، وغدت بياناتنا مادة خام تُستثمر في صناعة السيطرة. أما الخوارزميات، فقد كبّلتنا بقيود من الإدمان، لا تنفكّ تعيد تدوير ما "أُعجبنا" به، حتى غدت شاشاتنا سجونًا تُحكم إغلاقها علينا بأنفسنا.
القبلية الرقمية تهديد خفي للديمقراطية
لم يعد تأثير العالم الرقمي مقتصرًا على ما نراه أو نقرأه، بل تعدّاه إلى طريقة تكوين دوائرنا الاجتماعية. إذ كثيرًا ما نجد أنفسنا محاطين بأشخاص يشاركوننا نفس الأذواق، ويهتفون للأسماء ذاتها، وينحازون إلى التوجّهات السياسية عينها. نتكتّل حول بعضنا، نبحث عن الدفء والحماية، وعن عزاءٍ يخفّف من وطأة الوحدة.
غير أنّ هذا الشكل الجديد من الاحتجاز في "غرف الصدى" الرقمية قد ولّد قبائل افتراضية، يتماهى أفرادها مع انتماءٍ ضيق، ويُغذّون شعورًا قويًا بالولاء لجماعة بعينها. وهنا يكمن الخطر، إذ يحذّر الباحثون السياسيون والاجتماعيون من أنّ هذه القبلية الرقمية تُهدّد ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية: إمكانية قيام حوارٍ حرّ وحقيقي بين البشر.
لقد تغيّرت أدوات المراقبة منذ عصر شكسبير تغيّرًا جذريًا؛ فما كان يُمارَس عبر الجواسيس والأعين الخفيّة صار اليوم يُدار بأنظمة افتراضية ترصد أنفاسنا الرقمية، وتحوّل عاداتنا وسلوكياتنا إلى بيانات قابلة للقياس والتسويق، ضمن ما يشبه "بانوبتيكون" معاصر لا جدران له، بل شاشات وأجهزة.
والوحدة التي يُعاني منها كثيرون – لا سيما الشباب – ليست بعيدة عن عزلة هاملت، الذي وجد نفسه عاجزًا عن البوح بمشاعره الحقيقية وسط عالم يترصده ويُقيّده.
ورغم أنّ ثقافتنا المعاصرة تبعد قرونًا عن لندن عصر شكسبير، فإن مسرحياته – ومعها أعمال كبار المسرحيين – ما تزال قادرة على جمع الناس في فضاءٍ واحد، وتذكيرنا بقوة الفن في إحياء الحوار، وتعميق التفكير في تجاربنا الإنسانية المشتركة.
حوارات شكسبير المسرحية: صوت الفرد وصدى الجماعة
في هاملت، يُدرك الأمير أنّ "ثمّة شيئًا فاسدًا في الدنمارك"، لكنه يجد نفسه عاجزًا عن المجاهرة بالحقيقة. وحيدًا على الخشبة، يهمس قائلاً: "لكن يا قلبي، عليَّ أن أصمت". تلك الصرخة المقيّدة بالصمت لا تبدو بعيدة عن حالنا اليوم، ونحن نلهث وراء أن يُرى حضورنا الافتراضي ويُسمع صوتنا في فضاءات الإنترنت، حيث يُنظَّم وجودنا أحيانًا وفق رغبة الآخرين لا وفق أصالتنا. لكن الأمر ليس حتميًا ولا محتومًا.
إنّ مسرح شكسبير، في زمنه، كان فضاءً استثنائيًا؛ ملتقىً لآلاف البشر من مختلف الطبقات، مساحة حيّة تتيح للناس أن يتبادلوا الحوارات لا مع الممثلين وحدهم، بل مع بعضهم البعض. هناك، كان الجمهور يناقش علنًا قضايا عميقة: عدالة إخضاع امرأة متمرّدة كما في ترويض النمرة، أو مواجهة استبداد طاغية كما في ريتشارد الثالث، أو إشكالية العلاقة بين المسيحي واليهودي كما في تاجر البندقية.
لقد فتح شكسبير نوافذ جديدة للفكر، وأشرك جمهوره في إعادة النظر إلى العالم وإلى أنفسهم بعيون متجددة. وما ميّز مسرحه أنّ الجمهور لم يكن يجلس صامتًا كما في المسارح المعاصرة، بل كان يتفاعل بصوتٍ عالٍ، يضحك، يحتجّ، يصفّق، ويشارك في صناعة الحدث المسرحي.
وتشير الدراسات التاريخية إلى أنّ المسرح في زمن شكسبير لم يكن ترفًا فنيًا، بل قوّة فاعلة في تشكيل الوعي العام، إذ مكّن الناس العاديين من التعبير عن آرائهم ومناقشة قضايا السلطة والمجتمع والدين. وبهذا المعنى، أسهم شكسبير – من حيث لا يقصد – في وضع اللبنات الأولى للثقافة الديمقراطية الحديثة، حيث تُبنى الحرية على المشاركة والحوار.
مواضيع حوارية: المسرح كمرآة للضمير الإنساني
تُعد هاملت من أعظم مآسي شكسبير وأكثرها تمثيلًا للإنسان في صراعه مع ذاته ومع مجتمعه. ففي ظل دولةٍ غارقة في المراقبة والفساد، تجسّد معاناة الأمير مأساةً أعمق: الكفاح الأبدي من أجل الحرية والانتماء.
في مونولوجاته الشهيرة، لا يكتفي هاملت بالتأمل في تردده وعجزه، بل يفتح بابًا للحوار مع الجمهور نفسه. حين يصرخ: "هل أنا جبان؟"، فإنه لا يوجّه السؤال إلى ذاته وحسب، بل يكسر الحاجز الرابع، باحثًا عن إجابة من العيون المتسمّرة نحوه في القاعة.
ولطالما لبّى الجمهور هذا النداء، من مشاهدٍ ثمل في فرقة شكسبير الملكية في ستينيات القرن الماضي صاح مجيبًا: "نعم!"، إلى مراهقٍ في مهرجان ستراتفورد عام 2022 همس معترضًا: "لا". لقد أراد المشاهدون أن يتحدثوا مع هاملت، وأن يشاركوه شكوكه الذاتية، مقدمين وجهات نظرهم الخاصة.
هاملت نفسه أدرك قوة المسرح المحرّرة. فبحثًا عن صوتٍ عام، اختار أن يستخدم التمثيل كسلاحٍ سياسي: أن يكشف الفساد المستشري في البلاط الدنماركي عبر مشهد تمثيلي. كما قال: "إن المسرحية هي الشيء الذي سألتقط فيه ضمير الملك".
ويؤكد علماء النفس المعاصرون ما وعاه شكسبير بالتورط بالحدث؛ فقد أثبتت الأبحاث أنّ حضور عرضٍ مسرحي يُوقظ الضمير، ويُحفّز على التعاطف مع المواقف السياسية المغايرة لما نؤمن به. هذا الانفتاح الوجداني لا يظل حبيس المسرح، بل يفيض على سلوك الناس خارجه، مولّدًا نزوعًا إلى التفاهم والتسامح والإصغاء إلى الآخر.
التعاطف والبصيرة والمشاركة الاجتماعية
إنّ حضور مسرحية ليس مجرد تجربة جمالية عابرة، بل فعلٌ يترك أثرًا ملموسًا في الوعي والسلوك. ففي إحدى مسرحيات الكاتبة الأمريكية دومينيك موريسو التي تناولت آثار إغلاق مصانع السيارات في ديترويت عام 2008، أظهرت الدراسات أنّ الجمهور خرج أكثر ميلًا للتبرع والتطوع في الجمعيات الخيرية الداعمة للمشردين. هكذا، يتحوّل المسرح من حكاية على الخشبة إلى قوة اجتماعية تُحرّك الضمير وتُترجم إلى عمل.
إنّ رؤية هشاشة البشر على الخشبة توقظ في المشاهد تعاطفًا أصيلًا مع تجارب الآخرين، وتعيد تذكيره بأن الإنسان في جوهره كائن ضعيف، يفتش عن معنى وانتماء. ولا يقتصر الأثر على الجمهور وحده؛ فالمسرح يهب فنّانيه أنفسهم فرصة لإعادة اكتشاف إنسانيتهم من خلال الأدوار التي يجسّدونها.
في كتاب "شكسبير أنقذ حياتي" (2013)، تسجّل أستاذة الأدب الإنجليزي لورا بيتس تجربتها في تدريس نصوص الشاعر العظيم لرجال قابعين في الحبس الانفرادي، لا يملكون من التواصل إلا ما تسمح به فتحات ضيّقة في أبواب الزنازين. هناك، وجد أحد السجناء نفسه شبيهًا بروح ريتشارد الثاني، السجين في خاتمة مسرحيته. وساعده الغوص في نصوص ماكبث على إدراك أخطائه في السعي المحموم وراء السلطة.
وفي برنامج مماثل بولاية ميشيغان، رأت سجينة ملامحها الخاصة في حزن الليدي آن في ريتشارد الثالث. لم يكن الأمر مجرّد تعاطفٍ مع شخصية، بل تجربة وجودية أعمق: مواجهة الذات، واستعادة القدرة على نقد الماضي، والتفكير في أدوار جديدة قد تُعيد رسم ملامح المستقبل.
بناء المجتمع: المسرح فعل مقاومة
لا يقتصر طريق التمكين والحرية عبر المسرح على جدران السجون أو خشبات المسارح العريقة. فالمسرح المحرِّر يمكن أن يولد أينما اجتمع الناس: في غرف المعيشة والمراكز المجتمعية، في الحدائق وأقبية الكنائس، في فصول الدراما أو حتى عبر فضاء "زووم". هناك، يقرأ الناس المسرحيات بصوتٍ عالٍ، يرتجلون مشاهد من حياتهم الخاصة، ويخلقون قصصًا جديدة معًا.
هذه اللقاءات البسيطة تمنحنا ما تعجز عنه أجهزتنا: تجربة التواجد الصادق مع الآخرين في فعلٍ إبداعي مشترك. فعندما نُجسّد أدوارنا، نتخطى التوقعات الخوارزمية التي تحاول أن تُعرّفنا أو تُسيطر على اختياراتنا عبر الإنترنت. وحين نتعاون لسرد الحكايات، نصنع مجتمعًا يتبادل الشهادة والاعتراف؛ مجتمعًا يرى بعضه بعضًا بصدق.
ولعلّ خاتمة هاملت تظلّ الشاهد الأبلغ، إذ يطلب الأمير من صديقه هوراشيو أن يستنشق أنفاسه "في هذا العالم القاسي" ليروي القصة. إنّ فعل السرد هنا ليس مجرد نقل للأحداث، بل مقاومة للنسيان، وإصرار على الشهادة بالحق.
هكذا تكمن قوة المسرح المحرِّرة في كلّ من يجرؤ على الاجتماع مع الآخرين، أن يُطفئ هاتفه، ويهب نفسه لفعل الحكاية. كلّ تجمعٍ مسرحي، مهما صغر حجمه، يصبح فعل مقاومة صامتة: استعادة لقدرتنا على الحوار، وبناءً لفضاء إنساني يتحدى العزلة الرقمية.
ماري تروتر، طالبة دكتوراه، قسم اللغة الإنجليزية، جامعة ماكجيل.
بول ياكين توملينسون، أستاذ دراسات شكسبير، جامعة ماكجيل.