لالا رومانو: كاتبة السيرة الذاتية قبل أن تُسمّى
اليوميات التي صارت رواية: لالا رومانو ونشأة السيرة الذاتية الحديثة
ترجمة : إقبال عبيد
كتابة : براين روبرت
في عالمٍ أدبيّ يترنّح بين جنون الخيال وانكسارات العقول، تبدو الندرة في أن يُمنح الكاتب اعترافًا بكونه جادًا، ثابت الخطى، يمضي في نسج روايته بوعيٍ ومسؤولية، دون أن يتخلى عن سرده لصالح العاصفة التي تجرف الآخرين. هكذا كان الثناء الذي تلقّته الكاتبة الإيطالية لالا رومانو عام 1964 من أحد كبار مُعجبيها ومحررها في دار إينودي، الكاتب إيتالو كالفينو.
ومع أنّ رومانو واصلت إنتاج أعمالها الروائية لعقود لاحقة، فإن كالفينو أدرك مُبكّرًا أن ما كانت تكتبه لم يكن مجرد روايات متفرقة، بل سيرة متراكبة تُعيد صياغة حياة كاملة في صورة "قصة" شخصية، أو "تاريخ" ذاتي – إذا استدعينا المعنى المركّب لكلمة Storia بالإيطالية. فقد كتبت رومانو من لبّ تجربتها، ومن علاقاتها وذكرياتها، لتُحوّل حياتها الخاصة إلى نصّ حيّ، تتجاور فيه اليوميات مع الفن، والذاكرة مع الخلق الأدبي. ومن هنا جاء فرادتها، إذ شكّلت كتبها لوحة متصلة من أغنى وأعمق تجلّيات الفن في القرن العشرين.
وقد بلغت هذه الرحلة ذروتها في عام 1987 مع عملها البديع «في أقاصي البحار»، غير أن خيطها الفني ظل دائمًا خارج المألوف. فقبل أن تستقر كروائية في ميلانو ما بعد الحرب، كانت قد خطت بداياتها في تورينو كرسامة واعدة، وأصدرت هناك مجموعتها الشعرية الأولى سنة 1941، قبل أن تعود بعد عقد لتفتتح عالمها النثري بمجموعتها «التحولات»، التي جمعت فيها أحلامها كمن يضع أساسًا لأفق سرديّ لا يتوقف عن التجدّد.
ومع أنّ رومانو كانت ترى، بحقّ، أنّ تصويرها للأحلام يظل ضربًا من الواقعية، فإن كتابها «التحولات» بدا، في بنيته السردية الغريبة والمجزأة، بعيدًا كل البعد عن موجة الواقعية الجديدة التي سادت آنذاك. لقد جاء الكتاب ككائن مستقلّ، لا يُشبه ما كان مألوفًا في المشهد الأدبي الإيطالي في منتصف القرن العشرين. وربما لهذا السبب حظي منذ صدوره بتقدير خاص من ناتاليا جينزبورغ وسيزاري بافيزي في فضاء إينودي؛ حيث وصفت جينزبورغ أحلام رومانو بأنها «خصبة، جميلة، ومُنعشة» – كلمات تكشف إدراكًا مبكرًا لفرادتها وصدق تجربتها.
غير أنّ رومانو لم تكن تكتب لتنال الإطراء، بل لأنها رأت في استكشاف العلاقات الإنسانية وتحويلها إلى فنّ ضرورة وجودية لا يمكن التنصّل منها. وكما كانت تمسك بالريشة لترسم البورتريه أو المناظر الطبيعية، راحت تمسك بالقلم لتسجّل وجوه الناس، أمكنتهم، وأزمنتهم التي صاغت روحها، تلك التي مرّت عليها في الحبّ والصراع، وأحيانًا في المأساة.
هكذا، وجّهت رومانو بصرها وذاكرتها إلى لحظات مكثّفة من حياتها: طفولتها في قرية ديمونتي الألبية قرب كونيو، سنوات دراستها الجامعية في تورينو، ثم خبراتها كامرأة في أدوار متعاقبة: زوجة، أم، وجدّة. وقد صاغت هذه التجارب برهافة شعرية وصدق عاطفي نادر، لتضعها في قلب الأدب، مساويةً بينها وبين أكثر الموضوعات «الكبيرة» التي طالما اعتُبرت حكرًا على الرواية. وهنا تحديدًا تكمن أصالتها: في إعادة الاعتبار للتجربة اليومية العاطفية، وفي البرهنة على أنّ الحميميّ والشخصي يمكن أن يكونا مرآة لكونٍ أوسع، وأنّ السرد الأدبي، مهما ضاق موضوعه، قادر على حمل أعمق المعاني.
في عملها الصادر عام 1969 تحت عنوان «كلمات خفيفة بيننا»، فتحت رومانو أفقًا غير مألوف في الأدب الإيطالي، إذ تحدثت بجرأة نادرة عن قلقها، بل وعن ارتباكها وترددها إزاء تجربة الأمومة. لم يكن الأمر مجرد اعتراف عابر، بل كان تفكيكًا صريحًا لوجهٍ من وجوه الحياة ظلّ محاطًا بالصمت أو مثقلاً بالصور المثالية. ولعلّ ما جعل الكتاب أكثر إرباكًا للقراء هو الكم الهائل من التفاصيل والوثائق الشخصية التي وضعتها رومانو بين أيديهم، لتكشف عن العلاقة المعقدة والمتوترة التي جمعتها بابنها بييرو، علاقة متشابكة بين الحب والخذلان، بين الرغبة في الرعاية والخوف من الفشل.
ورغم صدمة الإفصاح، ظلّ النصّ محتفظًا بجاذبيته العاطفية والفكرية، حتى أن بييرو نفسه قرأ الكتاب – كما ذكرت لاحقًا – واستمتع به، وكأنّه رأى فيه اعترافًا بوجوده من منظور آخر. غير أن المفارقة المؤلمة تجلّت لاحقًا: حين نال بييرو جائزة ستريغا، أرفع الجوائز الأدبية في إيطاليا، تحوّل نجاحه الأدبي إلى عبءٍ خانق. فالشّهرة التي كان يُفترض أن تكون نعمة، أثقلت عليه كهوية، وألقت بظلالها الثقيلة على علاقةٍ كانت هشّة منذ بدايتها. وهكذا، بدلاً من أن تُصلح المجد الشخصي والجماعي ما تآكل بين الأم وابنها، زادت حدّة الشرخ، لتتحول التجربة الإبداعية إلى شاهد جديد على التوتر الأبدي بين الفنّ والحياة.
غير أنّ رومانو لم تكن تنظر إلى الأدب بوصفه ممارسة جمالية فحسب، بل باعتباره شرطًا وجوديًا لا غنى عنه. ففي إحدى مقابلاتها صرّحت بوضوح: «الكتابة هي أسلوبي في الحياة». لقد رأت في الكتابة الوسيط الأعمق لفهم الذات والعالم، والأداة الوحيدة لتحويل العلاقات الأكثر هشاشة ومعنى إلى فنّ خالد.
ومثلما فعلت في أعمالها السابقة، التي استندت إلى الذكريات والعلاقات الشخصية، رفضت رومانو أن تُصنَّف نصوصها كمذكرات أو سيرة ذاتية. فهي تفضّل أن تُسميها «روايات»، إذ كانت ترى أن السؤال عن الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال سؤالٌ عديم الجدوى حين يتعلق الأمر بالأدب. فالأدب عندها ليس توثيقًا للواقع، بل إعادة خلق له، كما لو أنّ النصّ هو الحياة وقد صيغت من جديد بوعيٍ آخر.
وقد عبّرت عن هذه الرؤية بجلاء عند حديثها عن كتابها الأخير «في أقاصي البحار» بقولها: «لا أخشى التجربة المعاشة. الفن تجريد». ولعلّ هذا التجريد هو ما مكّنها من الإمساك بجوهر الخبرة الإنسانية، إذ يصبح الواقع نفسه مادةً خامًا للخيال. ولم يكن الأمر بالنسبة لها سوى تأكيدٍ متكرر لحقيقة راسخة: أن الذاكرة ليست استعادة صافية لما مضى، بل هي شكل من أشكال الاختراع. أو كما كتبت بصرامة فكرية لافتة: «بالنسبة لي، الذاكرة تتزامن مع الاختراع».
ما يثير الدهشة أن يظهر كتاب بهذه القوة والانتشار حول تجربة فقدان الزوج/الزوجة في زمنٍ سابق على شيوع ما بات يُعرف لاحقًا بـ «أدب الحزن» أو Memoirs of Grief. لقد سبقت رومانو عصرها حين جعلت من الفقد نافذة على أعمق مناطق الوجود الإنساني، قبل أن يغدو هذا اللون الأدبي تيارًا واسع الانتشار.
وقد رأت رومانو نفسها أنها بلغت قمة عطائها الفني في عملها الأخير «في أقاصي البحار»، الذي ظلّت تُسميه «أهم كتبي» حتى رحيلها عام 2001. ففي هذا النص، تتكثّف الطاقة الشعرية وتصفو اللغة إلى جوهرها، ليغدو النثر عندها كأنّه مرآة بلورية تنفذ إلى الأعماق دون زوائد. إنه الكتاب الذي تُمسك فيه رومانو بخيوط خمسين عامًا من الحياة المشتركة مع زوجها، إينوسينزو مونتي، لا بوصفها مجرد ذكريات، بل كجوهر وجوديّ مكثّف، يكشف كيف يتحوّل الزمن المشترك إلى وحدة شعرية خالدة.
يأتي كتاب «في أقاصي البحار» في بنيته على شكل انقسام ثنائي دالّ: جزآن متقابلان يجمعان بين لحظة الميلاد ولحظة الفقد. الجزء الأول يستحضر «السنوات الأربع» التي شكّلت بدايات العلاقة: من تلك الرحلات الجبلية الجريئة التي التقت فيها رومانو بإنوسينزو ووقعت في حبّه، وصولًا إلى زواجهما وشهر عسلهما عام 1932. أما الجزء الثاني فيحمل عنوانًا مأساويًا أكثر كثافة: «الأشهر الأربعة»، حيث يختزل تدهور إنوسينزو السريع ورحيله عام 1984.
كان إنوسينزو، بصفته مصرفيًا، بعيدًا في الظاهر عن العوالم الأدبية، غير أنّ رومانو التقطت وجوده في أدقّ الإيماءات والتفاصيل: حركة يديه وهي تلمع في فضاء الجبال، ارتباكهما في ليلتهما الجنسية الأولى على ضفاف بحيرة، ذكرى زواج منسيّة، أو ترقية مفاجئة في عمله سرعان ما تحوّلت إلى مأساة. وللوهلة الأولى، قد تبدو هذه اللحظات عادية، بل تافهة، إذا نظرنا إليها من سطحها الظاهر. لكن رومانو تكشف عبرها أن الزواج «العادي» ليس سوى مسرح لجوهر إنساني استثنائي، وأن الحقيقة تكمن لا في الحدث الكبير، بل في التفاصيل الدقيقة التي تمنح الحياة معناها وعمقها.
ومع ذلك، فإن علاقة رومانو بإنوسينزو لم تكن مجرد قصة حب طويلة أو زواج اعتيادي؛ بل يمكن قراءتها بوصفها تحققًا لحلم "الحياة البرية" الذي راود رومانو منذ أولى رحلاتها الجبلية معه – حياة تتنفس الفن، وتفيض بالعاطفة، وتتحرك بإيقاع الشعر. إن سنواتهما الممتدة لم تكن خلفية محايدة لحياتها، بل كانت القلب النابض لعملها الأدبي برمّته. ففي صفحات الكتاب، تتسلل شذرات من أعمالها السابقة، ومقاطع شعرية، وهواجس حلمية تعيد تشكيل الذاكرة في صورة فسيفسائية تكشف أن التجربة العاطفية لم تكن مجرد حدث عابر، بل نبعًا متجددًا ألهم نصوصها على مدى عقود.
وفي شخصية إنوسينزو، تلمح رومانو نوعًا من الشعر الفطري، أو كما كتبت: «نقاء جوهري لا يُختزل». ومع مرور الوقت، يكشف هذا النقاء عن تقاطعات عميقة مع فنّ رومانو نفسه: «ما أريد قوله هو هذا: أسلوبه، أي لغته، كان مشابهًا لأسلوبي في الكتابة: ملموس للأحاسيس، كتوم في الحقائق، سريّ لكن غير مخادع في المشاعر». وهنا يتضح أن الكتاب لا يقدّم مجرد مرثية لزوج، بل مقاربة فنية لمفهوم العلاقة الإنسانية، حيث يصبح إنوسينزو تجسيدًا لنموذج جمالي، وشريكًا روحيًا يتماهى مع صوت الكاتبة، حتى يصبح الحب ذاته شكلاً من أشكال الكتابة، والكتابة امتدادًا للحب.
وعلى الرغم من نقاء موضوعه، فإن رومانو لا تسعى إلى تقديم صورة مثالية عن الزواج أو الموت، بل تقف على مسافة نقدية منهما، مسلحةً بصدقٍ حادّ وسخرية رصينة. إنّها راوٍ يمتلك القدرة على كشف التناقضات الداخلية للحياة المشتركة، دون تزيين أو تلطيف. فحين تتأمل لحظة وفاة إنوسينزو، تستحضر ما تصفه بـ «عذاب الحيوان»، لحظة موت عارية من أي تزييف، ثم تذكّر بلوحة لفرنسيس بيكون قبل أن تكتب جملتها القاسية والمضيئة في آن: «لا رحمة من دون قسوة». هكذا يتحوّل الفقد عندها إلى تجربة تكشف ما هو أكثر جوهرية: أن الحنان نفسه لا يُقاس إلا بقدر الألم الذي يلامسه.
ومن اللافت أن يصدر كتاب بهذه القوة والاعتراف قبل عقود من شيوع ما يُسمى اليوم بـ «مذكرات الحزن»، والتي بلغت ذروتها في المحيط الأنجلوساكسوني مع كتاب جوان ديديون الشهير «عام التفكير السحري». ومع ذلك، فإن نصّ رومانو لا يمكن اختزاله في كونه كتابًا عن الحداد أو الفقد؛ فهو أبعد من ذلك، إذ يصحب القارئ في رحلة حميمة عبر تضاريس الحب والموت، رحلة تتأرجح بين النور والعتمة، بين الجمال والكسر. وبفضل هذه المعادلة الدقيقة، يشعر القارئ بالحزن كحضور حيّ، كجمالٍ مؤلمٍ لا يحتاج أن يُسمّى، لأنّه يتخلل كل جملة، ويضيء كل صفحة.
وكما هو شأن أعمال رومانو جميعها، فإن ترجمة «في أقاصي البحار» تمثل تحديًا مضاعفًا، لا بسبب بنيتها السردية فحسب، بل لأن كل كلمة فيها مشبعة بعبء التجربة الشخصية وكثافة العاطفة. اللغة هنا أشبه بخيط مشدود بدقة؛ كل مفردة مختارة كما لو أنها حجر كريم صُقل بعناية حتى يلمع في موضعه الصحيح. ومن ثمّ، فإن أي محاولة لنقل النص إلى لغة أخرى تعني الدخول في حوار مع ذاكرة الكاتبة وإيقاعها الداخلي، لا مجرد نقل معنى حرفي.
وقد لخّصت رومانو هذه الرؤية في مقال نشرته عام 1996 عن الكتاب، كاشفةً عن جوهر طريقتها في الكتابة: «بالنسبة لي، لطالما كانت الكتابة انتزاعًا من نسيج الحياة الكثيف والمعقد صورةً ما، ومن ضجيج العالم نغمةً ما، وإحاطة كليهما بالصمت». هنا تتبدّى الكتابة كعملية تجريد وجودي: اقتطاع لحظة من تيار الزمن، وانتشال نغمة من فوضى الضجيج، ثم إحاطتها بفضاء من الصمت يجعلها مرئية وسامعة معًا. بهذا المعنى، يصبح الأدب عند رومانو طقسًا للعزل والكشف في آن، محاولةً لإنقاذ ما هو جوهري من الانمحاء، ومنح القارئ فرصة للتأمل في ما كان سيضيع لولا الكتابة.
في «في أقاصي البحار»، يصبح الصمت عنصرًا بنيويًا لا يقل أهمية عن الكلمات ذاتها؛ فبياض الصفحة ليس فراغًا محايدًا، بل إطارٌ يحيط بالنص ويكاد يغلف فصوله القصيرة المكثفة، كما لو أنّ الكتابة تتنفّس داخل مساحات من السكون. الكلمات قليلة، لكنّها تتحرك كنبضاتٍ متقطعة، تتخللها وقفات واستراحات، لتصنع إيقاعًا موسيقيًا خاصًا يتطلب من القارئ استعدادًا للإنصات، لا مجرد القراءة. إنه إيقاع يختلف عن الكلام اليومي، أقرب إلى صلاةٍ أو ترتيلٍ سرّي.
وتنعكس هذه الحساسية الإيقاعية في الطريقة التي تصف بها رومانو دخولها في إيقاع حياة إنوسينزو نفسه؛ إيقاع تسميه «مُلِحّ ولكنه طويل»، الإيقاع ذاته الذي استعانت به لوصف فترة انحداره ومرضه. وكأن الرواية كلّها قائمة على هذا التوتر بين الإلحاح والامتداد، بين اللحظة التي تستدعي الانتباه والحياة التي تستمر رغم الألم.
وقد صرّحت رومانو في مقالها الشهير «لماذا أكتب»: «من الإيقاع ينبع سحر الرواية. غالبًا ما تُخفي الرواية سرًا – مثيرًا ولكنه مبتذل وخيالي – والأهم من ذلك، لغزًا – غامضًا، مُبطّنًا، ولكنه حقيقي». وهكذا، يصبح النص بالنسبة لها مساحة كشف، حيث يتكشّف السرّ ليمرّ، بينما يبقى اللغز معلقًا، نابضًا بالحياة، يترك القارئ في مواجهة ما لا يمكن حله، لكنه حقيقي إلى حدّ يستحيل إنكاره.
إنّ الألغاز التي يحتويها «في أقاصي البحار» ليست ألغازًا روائية بالمعنى التقليدي، بل ألغاز الوجود ذاته: سرّ الانجذاب الأول، شهوة الجسد وتوق العقل، ثم اللغز الأكبر الذي لا فكاك منه – لغز الموت، ذلك العبور الأخير عبر «أبعد البحار» إلى عالم لا عودة منه. هذه ليست مجرّد موضوعات سردية، بل هي مفاتيح لمساءلة الحياة، ومناطق صمت يقف عندها القارئ مبهورًا، كأنّ النص يدعوه إلى التأمل بدل الإجابة.
ورغم أن أصالة رومانو ككاتبة وقدرتها على استباق عصرها تستحق تحليلًا مطوّلًا، إلا أنّ هذا العمل بالذات يُطالب قارئه بشيء آخر: أن يصغي، أن يسمح للكلمات وللصمت المحيط بها أن يُمارسا فعلهما دون تدخّل. فما يجعل الكتاب خالدًا ليس حسم الأسئلة، بل تركها معلّقة، كنجومٍ بعيدة تظلّ تُضيء السماء كلّما نظرنا إليها. إنّ غموضه ليس عجزًا عن الفهم، بل دعوة إلى البقاء في حضرة اللغز، حيث يلتقي القارئ بنفسه وبالحياة والموت في مساحة واحدة من التأمل العميق.
خلال عملي على ترجمة «في أقاصي البحار»، وجدت نفسي مرارًا أمام لحظات لم أكن مستعدة لها عاطفيًا، مهما حاولت التحصّن بالقراءة والتأويل. كان النص، على مستوى غريزيّ، يشلّني بقسوته، لكنه في الوقت ذاته يدعوني إلى تأمّل طويل، كأنّه يريد أن يُبطئ أنفاسي ويجعلني أعيش كل كلمة ببطءٍ يقارب الطقس الطقسي.
ومن بين المقاطع التي لا تزال ترنّ في داخلي، هذا المقطع الذي يكاد يكون صلاة مرثية:
«أفكّر في "التعزية": أنّه كان يبلغ من العمر شهرًا واحدًا فقط؛ وأنّه لم يرني عجوزًا. لطالما ظننتُ – بل شعرتُ – أنّنا لن نُدمّر بالعمر. ربما سأُدمّر أنا أيضًا، لكن لم يعد الأمر يُهمّ».
هنا، تتكثّف مأساة الفقد لتبلغ ذروتها: الزمن يتوقف، الوعي يقف وجهاً لوجه مع هشاشة الجسد، لكن الاستسلام لا يأتي على شكل يأس، بل على شكل قبول متأخر، كأن الكتاب كله يتلخّص في هذه اللحظة من التحرر الداخلي، حيث يفقد الموت رعبه ويصبح مجرّد حقيقة نهائية لا تستحق المقاومة بعد الآن.
أو ذلك المقطع الذي ينهش القلب:
«في أصعب لحظات الإحباط، أشعر برغبة جامحة أن أنادي نفسي: "ماما!" – وأدرك أن أمي الآن هي هو.»
عند وصولي إلى هذه السطور، في سياق الرواية، شعرت بقوة تأثيرها المدمّر، كأنها خيط خفيّ يشدّ روحي إلى الداخل. لحظتها أدركت أن موهبتي الحقيقية ليست فقط في إتقان الترجمة، بل في قدرتي على البقاء واقفة أمام نصّ كهذا، أن أتحمّل قوته، وأسمح له أن يمرّ بي دون أن أصدّه. بضع كلمات كهذه تحمل وزن كتب كثيرة، وربما أعظم من كتب تُقرأ كاملة دون أن تترك أثرًا مماثلًا.
لقد شعرت أن هذه القدرة على الإنصات لنصّ يتجاوز وظيفته الأدبية، نصّ يُلغي المسافة بين الكاتب والقارئ، ويضعك في قلب التجربة، هي امتياز نادر. ولعلّها اللحظة التي شعرت فيها أنّ عملي مترجمة ليس مجرد نقل للكلمات، بل مشاركة حقيقية في اختبار الألم، وفي جعله متاحًا بالعربية لآخرين قد يجدون فيه صدىً لفقدهم الخاص.
كما تعيد رومانو التذكير في مقالها «لماذا أكتب» بموقفها الجذري من فعل الكتابة، قائلةً:
«في أعماقي، أنا من فصيلة جوبير: أضع كتابًا كاملًا في صفحة، وصفحة كاملة في جملة، وتلك الجملة في كلمة واحدة.»
هذه العبارة تكثّف جوهر مشروعها الأدبي: اقتصاد لغوي صارم، يضغط التجربة الإنسانية حتى جوهرها الأخير. وقد بلغ هذا النهج ذروة نجاحه في «في أقاصي البحار»، حيث حققت رومانو توازنًا شبه مستحيل، موزونةً كل كلمة وكل لحظة كأنها نغمة في مقطوعة موسيقية دقيقة.
ولهذا السبب، فإن أي تدخل خارجي – كإضافة تعليقات تفسيرية داخل النص – كان ليكسر هذا الإيقاع ويشوّش إحساس الكتاب الفريد بالألفة، ذلك الإحساس الذي يُشبه قراءة يوميات خاصة لا تُخاطب إلا صاحبها. فالقوة الدافعة للنص، كما وصفتها رومانو، هي في جوهرها «أسئلة وأجوبة لنفسي».
ومنذ بداياتها الأدبية مع مجموعة أحلامها الأولى – التي اعتبرتها بشكل مفارق عملًا واقعيًا – وحتى روايتها الثانية «صمت مشترك»، التي تناولت أهوال الحرب الحقيقية لكنها تكشّفت كـ «حلم ليلة شتاء»، ظلّت رومانو ترى عملها الأدبي مزيجًا دائمًا من الواقع والاختراع. الواقع عندها ليس سوى نقطة انطلاق، مادة أولية يُعاد تشكيلها بفعل الخيال، بينما يصبح الاختراع وسيلة لكشف الحقيقة الأعمق الكامنة في التجربة المعاشة.
لقد رأت رومانو أن جوهر الذاكرة ليس مجرد استعادة آلية لما مضى، بل فعل حُلُميّ بامتياز. وقد كتبت صراحةً: «الذاكرة بالنسبة لي تعني الحلم». وفي الصفحات الأخيرة من «في أقاصي البحار»، حين تعود إلى أيام ما بعد رحيل إنوسينزو، تعترف:
«فجأة، في تلك الأيام، وصفت حياتي مع إنوسينزو بأنها حلم جميل. ربما استيقظت؟»
لكنها سرعان ما تدرك أن هذا الحلم لم يكن وهمًا أو فانتازيا، بل كان حياتها نفسها، الحياة الوحيدة التي عاشت، والتي صارت لا تنفصل عن وعيها بذاتها. تقول، مُضيئةً لغز الكتاب الأشدّ إيلامًا:
«والتي أسميها حيوات أخرى، بما كان واقعيًا فيها، هي حيواته أيضًا؛ ليس في الخارج، بل في ظله (هالته)... هكذا سأقيس حياتي مع استمرارها. وهكذا يجب أن تكون.»
هنا تبلغ رومانو ذروة مشروعها الأدبي: تحويل التجربة الشخصية إلى حلم مشترك، تُعيد من خلاله صياغة حياتها وتمنحها بعدًا جديدًا يتجاوز الفقد. إنّها لا تكتب لتُغلق الحزن، بل لتُعيد توجيهه، فتجعل القارئ شريكًا في هذا الحلم المُحيي. وبذلك، لا تعود تلك الذكريات ملكًا لشخص آخر، ولا تصبح مجرد نصوص مطبوعة، بل تتحوّل – بشكل غامض ومؤلم في آن – إلى جزء من حياتنا نحن، كأننا عشناها معها، وكأن الأدب قد نجح أخيرًا في تحقيق مهمته القصوى: تحويل الحلم إلى حقيقة مشتركة.
رواية "في أقصى البحار" للكاتبة لالا رومانو وترجمة برايان روبرت مور متاحة الآن في دار نشر بوشكين برس كلاسيكس.