ترجمة : إقبال عبيد
دوريس ليسينج: حين تقرأ الكتب لتفهم العالم
وُلدت دوريس ليسينج في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1919 في إيران، وترعرعت على أرض زيمبابوي، وما إن بلغت الرابعة عشرة حتى انقطعت عن مقاعد الدراسة، وما إن بلغت الثامنة والثمانين حتى توّجت بجائزة نوبل، تقديرًا لإسهامها في إذابة جليد اللغة وتحويلها إلى مفاتيح تفتح أقفال "السجون التي نختار أن نحيا داخلها".
قضت ما يربو على قرن في رحاب الكلمة، شاهدة على تقلبات الأزمنة، من نهوض الأنظمة الشمولية إلى اندثارها، ومن انبعاث الحركات الفكرية إلى أفولها، ومن تبدّل القيم إلى اضطراب المعايير. ومن خلال هذا الزمن المتشابك، خرجت برؤية متفردة إلى الكلمة المكتوبة: قوتها وسلطانها، وجمالها وحدودها.
كانت ترى أن الكتب لا تُقرأ لتلقين العقول، ولا لترويض الفضول، ولا لتحنيط التجربة الإنسانية داخل قوالب أيديولوجية؛ بل تُقرأ لتفتح الأذهان، وتوقظ التساؤل، وتوسّع الأفق، وتقرّبنا من الحياة، لا من صورتها الظليلة أو قناعها المصنوع.
كيف نقرأ؟ دروس من دوريس ليسينج عن الكتاب والعالَم
في مقدّمة عملها الكلاسيكي «المفكرة الذهبية» الصادر عام 1962، توجّه دوريس ليسينج نصيحة عميقة للشباب حول فنّ القراءة، لا باعتباره مهارةً فكرية فحسب، بل بوصفه مسارًا داخليًا نحو أقصى مراتب الاستنارة:
"ثمّة طريقة واحدة للقراءة: أن تتجوّل بين رفوف المكتبات ومحالّ الكتب، أن تدع الكتب تختارك، أن تقرأ فقط ما يجذبك، وتترك ما يُثقلك، أن تتخطّى الصفحات التي تُرهقك دون وجل، وألا تفتح كتابًا لأنك 'يجب' أن تقرأه، أو لأنه ينتمي إلى موضة فكرية أو تيارٍ عابر.
تذكّر أن الكتاب الذي يبعث فيك الملل وأنت في العشرين، قد يفتح أمامك نوافذ البصيرة في الأربعين أو الخمسين — والعكس صحيح. اقرأ في الوقت الذي تناديك فيه الكتب، لا في الوقت الذي تُفرض عليك فيه".
بهذه الرؤية المتحرّرة، تنضم ليسينج إلى تقليد طويل من الكتّاب الذين دعوا إلى تحرير الذات من سلطة الكلمة حين تصبح سجنًا، ومن أبرزهم الشاعر الأميركي والت ويتمان، الذي كتب قبل قرن من ذلك:
"أعد النظر في كلّ ما قيل لك في المدرسة أو الكنيسة أو في أيّ كتاب، وارفضْ كل ما يُسيء إلى روحك".
أما ليسينج، فتُصعّد هذا الموقف، محذّرة من أن القراءة، حين تُفصل عن الواقع، قد تتحوّل إلى قيد جديد، خاصة في عصر الخوارزميات التي تُطعِم الناس تحيّزات مصمّمة مسبقًا وتُقدَّم لهم على أنها حقيقة:
"في عصر تقديس الكلمة المكتوبة... يغفل الناس عن الحقيقة الواضحة أمام أعينهم... الحقيقة تسكن الكلمات غير المكتوبة، في كل مكان، لمن أبقى ذهنه منفتحًا.
فلا تدع الصفحة المطبوعة تتحكّم بك أبدًا".
ولعل أبلغ ما قالته عن فنّ القراءة – وعن الحياة ذاتها – هو تلخيصها البسيط المليء بالمعنى:
"اقرأ طريقك من تعاطفٍ إلى آخر... واتبع حدسك فيما تحتاج إليه".
القراءة لا كطقس ثقافي، بل كفعل وجودي
لم تكن دوريس ليسينج تكتب لتعلّم القارئ ما ينبغي أن يعرفه، بل لتدفعه ليتساءل عمّا يجهله. كانت القراءة، في نظرها، تجربة حرّة وشخصية، لا تتأسّس على السلطة الأكاديمية، ولا على قوائم "الكتب العشرة التي يجب أن تقرأها قبل أن تموت"، بل على الحميمية العميقة بين القارئ ونصّه.
إنها ترى الكتاب كنافذة، لا كمرآة. فبينما تُفضّل القراءات الموجَّهة أن تعيد إنتاج الذات، وتؤكد ما نعتقده أصلاً، تطلب ليسينج من قارئها أن يُعرض عن الألفة، ويُبحر في المجهول، أن يتعامل مع القراءة كاشتباك مع الغريب، مع المختلف، لا كتحصينٍ للذات من الأسئلة. ولهذا كانت تحذّر من القراءة كطقسٍ ثقافي أو كأداء اجتماعي، لأن القراءة في جوهرها ليست وسيلة لتمييز النخبة عن العامة، بل وسيلة لاكتشاف الإنسان داخل الإنسان.
لقد فهمت ليسينج، كما فهم بورخيس وكافكا قبلها، أنّ المعرفة التي لا تعصف بالقارئ ليست معرفة، بل زخرفة. وأن الكتاب الذي لا يُربكك، لا يُنضجك.
"السجون التي نختار العيش فيها": في نقد الطاعة الطوعية
في أحد أكثر أعمالها إثارة للجدل، سلسلة المحاضرات التي ألقتها في الثمانينيات بعنوان «السجون التي نختار أن نعيش فيها»، قدّمت ليسينج رؤيتها المقلقة للعالم الحديث، حيث لا يُجبر الإنسان على الخضوع، بل يختار الخضوع طواعية.
تسائلت فيها عن القوى الخفية التي تُشكّل وعينا: الإعلام، الجماعة، التعليم، وحتى اللغة ذاتها. ثم قلبت السؤال الكلاسيكي من "كيف يُقمع الإنسان؟" إلى "لماذا يستسلم الإنسان للقمع؟"، فكانت من أوائل الكتّاب الذين نبّهوا إلى السلطة الناعمة التي تُمارس عبر ما نظنه معرفة أو ثقافة أو عقلًا جمعيًا.
ترى ليسينج أن أخطر أنواع السجون ليست تلك المصنوعة من الجدران، بل تلك التي تُشيَّد من الكلمات، ومن الأفكار المقولبة، ومن الإجماع الذي لا يَحتمل المغايرة. وهنا تعود إلى مركز رؤيتها: الكتاب الجيد لا يُريحك، بل يُخرجك من سجنك.
بين العزلة والكتابة: متاهات الداخل
تُشبَّه ليسينج أحيانًا بفرجينيا وولف، لا من حيث الأسلوب، بل من حيث الإيمان العميق بأن التجربة الداخلية – لا الحدث الخارجي – هي ميدان الرواية الحقيقي. فالكتابة عندها ليست تسجيلاً لما يجري "هناك"، بل غوصًا فيما يجري "هنا"، في الذهن، في الذاكرة، في المنطقة المعتمة من المشاعر التي لا اسم لها.
عاشت سنوات طويلة في عزلة، دون أن تعتذر عن ذلك أو تبرره. فالعزلة، كما كانت تقول، هي الثمن الذي يدفعه الكاتب الجاد، لا للهرب من العالم، بل للقدرة على رؤيته كما هو، دون ضجيج، دون تمويه.
وكانت تعتقد أن العزلة لا تصنع الجنون، بل تكشفه. وأن من لا يحتمل العزلة، لن يحتمل الحقيقة.
مقال مثمر قرأته مرة ومرتين وفي كل مرة اكتشف فائدة اخرى رُبما يجب عليّ ان اعيد النظر في القيود التي وضعتها ل نفسي في القراءة.
رائع 😍👏