فريدريش فون شليغل: المثالي الذي سعى إلى ابتكار أسطورة جديدة
ترجمة : إقبال عبيد
كتابة : مريانا جوجيك
فريدريش فون شليغل: المثالي الذي سعى إلى ابتكار أسطورة جديدة
للوصول إلى المفهوم الفلسفي لـ “الأسطورة الجديدة”، ينبغي لنا أن نتعمق في فكر فريدريش فون شليغل، أحد أبرز فلاسفة الرومانسية والمثالية الألمانية.
لنرجع قليلًا إلى العام ١٨٠٠، ذلك العام المحوري في مسار الحركة الرومانسية وفلسفة المثالية، وهو محوري لثلاثة أسباب أساسية:
أولًا، نشر فريدريش شيلينغ كتابه “نظام المثالية المتعالية”؛
وثانيًا، صدور مقدمة ويليام ووردزورث الشهيرة للطبعة الثانية من “القصائد الغنائية”؛
أما ثالث الأسباب، وهو ما يهمنا مباشرة، فهو إصدار فريدريش فون شليغل كتابه “حوار في الشعر”، مُجسّدًا فكرته المركزية القائلة بأن الكتابة عن الشعر لا يمكن أن تتم إلا بوساطة الشعر ذاته. وعلى المنوال نفسه، كتب شليغل عمله المعروف “حوار في الأساطير” مستلهمًا بنية “الندوة” لأفلاطون.
فريدريش فون شليغل و«حوارات في الشعر»
يُعدّ فريدريش فون شليغل أحد ألمع وجوه الرومانسية الألمانية. فقد امتلك اتساعًا استثنائيًّا في الاهتمامات والمهارات؛ فهو لم يكن ناقدًا أدبيًا ومنظّرًا فحسب، بل كان أيضًا فيلسوفًا ومؤرّخًا ولغويًا وفقيهًا. وبسبب هذا التنوّع في الميول، بدأ بدراسة القانون، لكنه اكتشف سريعًا أن شغفه الحقيقي يقوده نحو الأدب واللغة، فانصرف إليهما بكليّته. درس الأدب اليوناني والروماني الكلاسيكي بعمق، ثم امتد اهتمامه إلى أدب عصر النهضة. وقد تداخلت معارفه وتشابكت بحيث شكّلت نسيجًا واحدًا، استثمره بشغف في أعماله، كما نرى بوضوح في كتابه «حوار في الشعر».
في قلب فكره نجد فكرة جذرية: إعادة تعريف الإبداع الفني عبر التحرّر من المفهوم القديم للمحاكاة. فبدلًا من أن يكون الفن ظلًّا لما هو قائم، يصبح بحثًا عن «المطلق الأدبي»، ومجالًا تتجلّى فيه السخرية الرومانسية بوصفها مبدأً تأسيسيًا — وإن كانت هذه المقالة لن تتوقف عند هذا المفهوم بالتفصيل.
صدر كتاب «حوار في الشعر»، أو «الحديث عن الشعر» بالعنوان الأصلي، للمرة الأولى في مجلة «أثينيوم» الشهيرة التي حرّرها شليغل مع شقيقه الأكبر أوغست شليغل. وقبل ذلك، كان فريدريش قد كتب عام ١٧٩٧ كتابه «في دراسة الشعر اليوناني»، حيث عرض رؤيته للفن الذي نشأ من عبقرية الشعراء الإغريق. ثم عاد في «حوار في الشعر» ليوسّع تلك الرؤى ويعمّقها، مانحًا الشعر مكانة شبه إلهية؛ إذ يصوّره قوة حاضرة في كل شيء، مندمجة بالطبيعة ومتصلة بروح العالم.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يكتب شليغل عملًا نقديًا يزاوج فيه بين الشعر والنقد؛ فالشعر بالنسبة إليه ليس موضوعًا للنظر فقط، بل طريقة للفكر ذاته. وهنا، يحضر أفلاطون بوصفه شاعرًا كبيرًا يكتب بالفكرة والإيقاع، وهو ما يتجلى في حواراته التي استلهم منها شليغل الكثير.
حوار شليغل بوصفه ملتقى أفلاطوني
استوحى فريدريش فون شليغل فكرة «حوار في الشعر» مباشرةً من حوارات أفلاطون، إذ تكاد بنيته وأسلوبيته ينهضان على النموذج الأفلاطوني ذاته. فقد قرأ شليغل أفلاطون بلغته اليونانية الأصلية وألمّ بفكره إحاطة واسعة، ثم اختار أن يصوغ مقاله الشعري على منوال الحوار الأفلاطوني الذي يعالج موضوع الجمال؛ فالشعر والجمال عنده متداخلان تداخلًا وثيقًا، وهو رابط أقرّه شليغل وأفلاطون وكثير من المفكرين.
ولإبراز هذا التشابه، يمكن العودة إلى «الندوة» لأفلاطون، الحوار الذي كُتب نحو عام ٣٨٠ قبل الميلاد، والذي يمثّل الإطار الأكبر الذي استلهم منه شليغل بناء نصّه. يبدأ الحوار الأفلاطوني بقصة تُفسّر سبب انعقاد الندوة: فوز الشاعر التراجيدي أغاثون في مسابقة شعرية، ودعوة عدد من المفكرين إلى بيته للاحتفال. وبعد هذا «السرد الإطاري»، تبدأ الندوة الفعلية، فيجلس المشاركون — ومن بينهم سقراط — لتبادل الخطب.
يستمر الحوار بينما يوجّه سقراط الأسئلة إلى محاوريه، فيلقي كل واحد منهم خطابًا حول الحب، أو بالأدق «مديحًا لإيروس» إله الحب. ومن خلال أسئلة سقراط، تتحوّل هذه الخطب إلى بحث مشترك عن ماهيّة الحب ومراتبه وتمثّلاته. غير أن المعرفة في الحوارات الأفلاطونية لا تُقدَّم إلى سقراط كحقيقة نهائية؛ فدوره قائم على التساؤل وتقويض اليقين، وإظهار أن كل محاوِر يعتقد أنه يعرف أكثر مما يعرفه في الحقيقة. إن «جهل سقراط» هنا هو معرفة بالحدود، ووعي بأن الطريق إلى الحقيقة لا نهاية له.
هذا البناء يجد صداه في «حوار في الشعر» لشليغل. إذ يبدأ النص بقصة صديقين يلتقيان ويقرّران تنظيم ندوة صغيرة يقدّم كلٌّ منهما فيها أفكاره حول الشعر. ثم تتداخل الكلمات والخطب وتتقدّم نحو شكلٍ من النقاش المشترك، حيث يتحوّل الحديث عن الشعر إلى حوار حيّ يتناول ماهيّته، وظيفته، ومكانته في العالم — تمامًا كما يحدث في الندوة الأفلاطونية، حيث يغدو موضوع الجمال أو الحب مناسبة لكشف طرق التفكير نفسها.
الأساطير: تعريفاتها ونظرة شليغل إليها
تعود كلمة «أسطورة» إلى الأصل اليوناني ميثوس (mythos)، وتعني «قصة» أو «رواية تقليدية». ويُعَدّ ظهور الأساطير — بوصفها جزءًا من منظومات قصصية كبرى — ظاهرة بالغة الدلالة، إذ تكاد كل الشعوب القديمة، رغم تباعدها، أن تكون قد صاغت أساطيرها الخاصة. اعتمد الإنسان القديم، الذي لم يكن يملك أدوات العلم أو قوانين الفيزياء، على الخيال ليُفسّر ما يحيط به. ولأجل فهم الظواهر الطبيعية — من حركة الشمس، وتقلّب البحر، ونزول المطر، وحدوث الجفاف، وتبدّل الفصول — ابتكر قصصًا تُقدّم تفسيرًا للطبيعة وعمل العالم. لقد كان الخيال طريقًا إلى المعرفة، والقصّة وسيلةً لترويض المجهول.
وبحسب كلود ليفي-شتراوس، أحد أبرز دارسي الأسطورة، فإن الأسطورة تمثّل محاولة للتغلّب على تناقضات العالم وصراعاته. وكما يروي الكتاب المقدّس خلق العالم من العدم على يد إله واحد، كذلك وضعت الثقافات القديمة، ومنها اليونان، أساطير تشرح أفعال الآلهة وكيفيّة نشوء الكون وتنظيمه. وكانت هذه القصص تُحدّد سلوك البشر الذين يرون في الآلهة نموذجًا ومصدرًا للقوة، لذا ارتبطت بها طقوس وممارسات دينية واجتماعية متعدّدة.
أمّا فريدريش فون شليغل، فقد رأى في الأسطورة تعبيرًا عن صلةٍ عميقة كانت تربط الإنسان بالطبيعة، صلة اعتبر أنها فُقدت في عصره الحديث. ومن هنا جاء إعجابه الشديد بالأساطير القديمة، وبالطريقة التي استطاع بها العقل الإنساني أن يتواصل مع العالم عبر السرد الرمزي. يؤمن شليغل بأن الشعر القديم ذو طبيعة «إلهية» لأنه يستند إلى الأساطير، ولهذا يُعلي من شأن هوميروس وملاحمه الكبرى — الإلياذة والأوديسة — لما تحمله من جذور أسطورية ولأنها تُجسّد بدايات الشعر والدراما. وبطبيعة الحال، يمتد اهتمامه إلى الأساطير اليونانية والهندية والبابلية والرومانية وغيرها، معتبرًا إياها مفاتيح لفهم الروح الإنسانية الأولى.
النقاش حول الأساطير
يشكّل النقاش حول الأساطير محورًا جوهريًا في «حوار في الشعر». فهو يُقدَّم في صورة خطاب أحد المشاركين في الندوة، يعبّر فيه عن رؤيته لدور الأساطير في الشعر، وعن قلقه من غياب هذا الركن الحيوي في أعمال الكتّاب المعاصرين لعصر شليغل.
كان أوغست فيلهلم شليغل — شقيق فريدريش — يرى أنّ عالم الأساطير خصب وواسع إلى حدّ يجعله أعظم منبع للشعر. فمصدر الشعر هو الخيال، ومصدر الأسطورة هو الخيال أيضًا، ومن هنا يصبح الارتباط بينهما ارتباطًا بنيويًا لا يمكن فصله. فبحسبه، الأسطورة هي مركز الشعر ونواته الأصلية.
لكن فريدريش فون شليغل يعترض — أو على الأقل يُعيد توجيه النقاش — فيؤكد أنّ الشعر الرومانسي الحديث يفتقر تحديدًا إلى ما يسميه شقيقه «مركز الشعر». يذهب فريدريش إلى أن كل شاعر معاصر، أثناء عملية الكتابة، يشعر بأن شيئًا ما ينقصه: ينبوع داخلي عميق تنبثق منه القصيدة. لقد امتلكت العصور القديمة ذلك الينبوع، لكنه اندثر، ونحن نفتقده اليوم. فالأساطير — في نظره — كانت الزهرة الأولى لخيال الإنسانية في طفولتها، وكانت أكثر العناصر الحيوية في الروح القديمة.
وعندما يتحدث شليغل عن «العناصر الأكثر حيوية»، فهو يشير بوضوح إلى الطبيعة. فالشعر، في تصوّره، يحتوي على كل ما تحتويه الطبيعة، ويستمد منها جوهره. لكن الإنسان الحديث — كما يرى — انفصل عن الطبيعة أكثر مما ينبغي. لذلك يأتي دور الشاعر: فهو القادر على إعادة الإنسان إلى صلته الأولى بالعالم الطبيعي، لأن الشعر يكشف له عن خيرات الطبيعة وأسرارها، ويربطه بها رابطًا أعمق.
لماذا نحتاج إلى أساطير جديدة؟
كان شعراء عصر شليغل — في نظره — يفتقرون إلى الأساطير بالمعنى العميق الذي شكّل جوهر الإبداع في الأزمنة القديمة. صحيح أن بعض الكتّاب استعاروا رموزًا وزخارف أسطورية في أعمالهم، لكن ذلك — بالنسبة إلى شليغل — لا يمثّل إلا قشرة سطحية. فالأسطورة التي يقصدها ليست زينة بل ينبوعًا داخليًا يتدفّق من أعمق طبقات الخيال البشري.
يرى شليغل أن الأساطير الجديدة يجب أن تنشأ بالطريقة نفسها التي نشأت بها الأساطير القديمة: من خيالٍ خلاق يبتكر رؤى كونية متشابكة تشكّل فيما بينها نسيجًا مترابطًا من القصص والمفاهيم. وتنبثق هذه الأساطير الجديدة، كما يعتقد، من روح المثالية، لأنها — بوصفها روح الثورة — تمهّد للإنسان طريقًا نحو مركزٍ جديد يحتاج إليه كي يعيد بناء علاقته بالعالم.
لكن السؤال الجوهري هو: لماذا نحتاج إلى أساطير جديدة؟
يجيب شليغل بأن الإنسان، إذا ما وجد هذا المركز الأسطوري الجديد، سيشرق بروحٍ متجدّدة، ويُعاد جمعه في فضاءٍ من المحبة والانسجام. فبهذه الأساطير سيكتشف جوهر العالم، ويتّحد من جديد بالطبيعة، ويبلغ حالة من السلم الداخلي. ويُصرّ شليغل على أن الأساطير القومية وحدها لا تكفي؛ إذ يرى قيمةً عظيمة في أساطير الأمم الأخرى، ويعتبرها كنوزًا يمكن للشعراء أن ينهلوا منها من أجل توسيع خيالهم وتجديد رؤيتهم.
وفي الختام، يظهر بوضوح دفاع شليغل عن المعرفة، ولا سيما اليونانية والرومانية، اللتين كان يتقنهما تمامًا. ومع مرور الوقت، تطوّر خطابه النقدي، فبدأ يكتب عن شعر عصره بوصفه شعرًا «تقدميًا» على خلاف الشعر القديم. فالشعر القديم، في تصنيفه، مكتمل ومثالي. أما الشعر الرومانسي فـ قيد التشكل، وفي مسعاه نحو الاكتمال يكتسب طابعه الحيوي المتجدد.








