أصعب سؤالٍ يواجه الكاتب
بالنسبة إلى الكاتبة الكندية ميريام تووز، تمثّل الكتابة وسيلةً وجودية لمواجهة المسكوت عنه، وللتعايش مع ما يعجز اللسان عن التصريح به.
تروي الناقدة كريستين مارتن أن الكاتب، حين يبلغ درجةً من الشهرة والاعتراف، يُنتظر منه أن يجيب على السؤال الأبدي: لماذا يكتب؟
يلقي البعض باللوم على جورج أورويل، الذي نشر عام 1946 مقالته الشهيرة "لماذا أكتب"، حيث قدّم رؤية مركّبة لدوافع الكتابة، متأرجحًا بين "الغرض السياسي" و"الحماسة الجمالية"، وهما الدافعان اللذان غذّيا مسيرته الأدبية. غير أنّ أورويل نفسه لم يتردّد في الاعتراف بأن فعل الكتابة، في جوهره، يبقى قرارًا غامضًا وملتبسًا. وقد لخّص تجربته بعبارةٍ قاسية حين كتب: "تأليف كتاب عملية شاقة ومرهقة، أشبه بنوبةٍ طويلةٍ من مرضٍ مؤلم".
ثم جاء دور جوان ديديون، التي استدعت عام 1976 عنوان مقالة أورويل ذاته، وجعلته محورًا لمحاضرة ألقتها في جامعة كاليفورنيا – بيركلي. هناك، أوضحت دوافعها الخاصة، فقالت: "أكتبُ كي أكتشف ما أفكّر فيه، وما أنظر إليه، وما أراه، وما يعنيه. أكتب لأعرف ما أريده وما أخشاه".
بالنسبة إلى ميريام توز، الكاتبة الكندية صاحبة رواية «نساء يتحدثن» وسبع روايات أخرى، جاءها سؤال: «لماذا أكتب؟» على نحوٍ مُلحّ عام 2023، حين طُلب منها إعداد مقالة حول هذا الموضوع لتشارك بها مع مجموعة من المؤلفين في فعالية أُقيمت بمدينة مكسيكو. لم تستطع توز أن تقدّم إجابة تُرضي منظّمي الفعالية، غير أنّ السؤال ألقى بها في دوّامة من التداعيات الفكرية والوجدانية، تحوّلت لاحقًا إلى نصٍّ سردي متماوج صاغته في كتابها الجديد «هدنة ليست سلامًا»، وهو بمثابة مذكّرات شخصية.
في هذا العمل، تدخل توز مواجهة متعددة الطبقات مع موضوعات الموت والفقد والشعور بالذنب، وهي الثيمات التي غذّت أعمالها الأدبية طوال ما يقرب من ثلاثة عقود. والكتاب يقدّم تأملات مؤرّقة حول الكيفية التي يمكن للإنسان أن يعيش بها بعد الخسارة المأساوية. ولا ترى توز في فعل الكتابة خلاصًا من المأساة الشخصية أو وسيلةً لحلّها، بل تعدّها طريقًا للتعايش مع ما يستعصي على القول وما يعجز اللسان عن وصفه.
لطالما انشغلت ميريام توز باستكشاف مآسي سيرتها الذاتية وتناقضاتها الداخلية عبر رواياتها. فقد ظهرت لأول مرة على الساحة الأدبية سنة 1996 بروايتها «صيف حظي المدهش» (Summer of My Amazing Luck)، وهي رواية خفيفة الطابع ومرحة، تتبع مغامرات مجموعة من الأمهات العازبات المستفيدات من برامج الرعاية الاجتماعية، واللواتي يعشن في مجمّع سكني بمدينة وينيبيغ، ويربين أبناءهن بمفردهن؛ تمامًا كما عاشت توز تلك التجربة في مطلع عشرينيات عمرها.
أما روايتها التالية «فتى حسن النسب» (A Boy of Good Breeding)، فقد اقتربت فيها أكثر من جذورها في بلدة صغيرة بولاية مانيتوبا، من خلال حبكة غرائبية تدور حول أمٍّ عزباء تتورط في خطة لمساعدة عمدة المنطقة على لقاء رئيس الوزراء. وفي كلتا الروايتين تتجسّد ملامح والدي توز في نسختين متخيّلتين: والدتها إلفيرا، المتفائلة الصلبة بعزم يكاد يكون خارقًا، ووالدها ميلفن، المحبوب المنكسر تحت وطأة الاكتئاب.
غير أنّ التحوّل الجذري في مسيرتها الأدبية لم يبدأ إلا بعد رحيل والدها ميل في أيار/مايو 1998؛ عندها شرعت توز في نشر أعمالٍ أكثر قتامةً وجرأة، تفتح عبرها نوافذ مباشرة على أعمق جراح حياتها وأكثرها إيلامًا.
كان أول عمل لتوز في هذا السياق عملاً خارج إطار الرواية، وإن ظلّ مشبعًا بالخيال والتأمل. ففي كتابها «سوينغ لو» (Swing Low)، استحضرت صوت والدها لتروي عبره قصة حياته حتى لحظاته الأخيرة. كان ميل معلّمًا متدينًا عاش حياته في بلدة شتاينباخ بولاية مانيتوبا، البلدة التي وصفتها توز ذات يوم بأنها جامدة وقمعية. وقد شُخّص ميل في سن السابعة عشرة بالاكتئاب الهوسي، ومنذ ذلك الحين ظلّت نوبات الصمت والعزلة تلاحقه. ففي السنة الأولى من حياة ابنته، لزم الصمت التام، وهي التجربة التي كتبت عنها توز لاحقًا في «هدنة ليست سلامًا» بقولها: «صرختُ بلا انقطاع طوال ذلك العام».
وقبيل وفاته بوقت قصير، أُجبر ميل على ترك التدريس إثر إصابته بأزمة قلبية، فأطبق عليه الاكتئاب من جديد حتى توقف عن تناول الطعام وأُدخل المستشفى. وفي ساعاته الأخيرة، حصل على إذن خروج مؤقت من المشفى، ومضى نحو معبر للقطارات، حيث اختار أن يضع حدًا لحياته بالانتحار. كان ذلك المشهد بمثابة ذروة مأساة شخصية ظلّت توز تحفر في آثارها الأدبية، بحثًا عن الكتاب الذي يمكن – ولو على سبيل التوهم – أن ينقذ حياة غالية كانت على الدوام تتأرجح بين الصمت والغياب.
بعد ما يقارب اثني عشر عامًا على وفاة والدها ميل، عانت ميريام توز مأساة جديدة بوفاة شقيقتها مارجوري بالطريقة ذاتها، وذلك قبل يوم واحد فقط من بلوغها الثانية والخمسين. كانت مارجوري قد عاشت سنوات طويلة تحت وطأة اكتئاب حادّ، وأصبحت صورتها تتردّد في عدد من روايات توز، إما على نحو مباشر أو عبر ظلالٍ متخيّلة.
في روايتها «التراوتمان الطائر» (The Flying Troutmans)، نسجت توز حكاية شقيقتين: كبرى تُقدِم على الانتحار، وصغرى متمرّدة تُكرّس حياتها رغم ذلك لمحاولة إبقاء أختها حيّة. وقد رأت مارجوري في هذا الكتاب بمثابة "عيد حب" موجّه إليها شخصيًا.
وعادت توز لتفكك هذه العلاقة الأليمة من جديد في روايتها الكلاسيكية المؤثرة «كل أحزاني الهزيلة» (All My Puny Sorrows)، حيث قدّمت من خلال الخيال السردي صورةً عن تفكك زواجها، وعن يأسها المتنامي من إنقاذ حياة أختها، فيما كانت مارجوري نفسها تطلب – بإلحاح شديد – المساعدة على الموت. وهكذا تحوّل النص إلى سجلّ مفعم بالأسى، يوثّق الصراع بين إرادة التشبث بالحياة ورغبة الفناء.
صرّحت ميريام توز عقب وفاة شقيقتها مارج بقولها: «لم أجد كلمات للتعبير. احتجت إلى سنوات حتى أتمكّن من أن أقول لنفسي: لا، أنا كاتبة. وهذا ما أفعله؛ أجمع الأشياء المبعثرة وأعيد صياغتها حتى تصبح مفهومة بالنسبة لي». غير أنّ كتابها «هدنة ليست سلامًا» يكشف أنّ جرح انتحار والدها وشقيقتها ما يزال عصيًّا على التفسير أو التبرير، وأنها ما تزال تصارع في داخلها الدافع لكتابة ما يخصهما – وعنـهما في آنٍ واحد.
وقد استلهمت عنوان كتابها من مقالة الشاعر كريستيان ويمان المعنونة «الحدّ»، والتي تقتبس منها باستمرار في ثنايا النص. فموقف ويمان الرافض للحلول السطحية في مواجهة الحزن الطاغي تحوّل إلى منارة تهتدي بها توز. يكتب ويمان: «قد نستحضر ذكرى موتانا دون أن تلاحقنا أشباحهم، وقد نمنح حياتنا تماسكًا لا يشبه "الخاتمة"، ونتعلم كيف نحيا مع ذكرياتنا وعائلاتنا وأنفسنا وسط هدنة ليست سلامًا».
وفي بحثها عن هذه الهدنة، تجرؤ توز على فتح مساحات تأمل أكثر صراحة وعمقًا مما قدّمته في أعمالها الروائية السابقة؛ إذ تسمح لنفسها أن تواجه الخسارات الموجعة وجهًا لوجه. إنّه تأمل يملك قوةً استثنائية على ملامسة كل من عاش تجربة الفقد، وأُجبر على شقّ طريقٍ جديد في الحياة بعد رحيل إنسانٍ كان محور وجوده.
خارج قيود الرواية التقليدية – وبالأخص التحرر من متطلبات الحبكة الصارمة – تُطلق ميريام توز العنان لتدفق وعيها على الصفحة. يتكوّن كتاب «هدنة ليست سلامًا» من ستة فصول خطابية، يستهل كلٌّ منها بتذكير بالمهمة التي كلّفتها بها لجنة فعالية مدينة مكسيكو، غير أنّ النص سرعان ما يتشظّى بين مقاطع متفرقة من الذاكرة، وصور متكرّرة من الكوابيس، وقوائم توثّق أساليب انتحار استخدمتها شخصيات بارزة عبر التاريخ. وإلى جانب ذلك، تنفتح صفحات الكتاب على تأملات شديدة الخصوصية، كحلم الكاتبة بإنشاء «متحف للرياح»، وحكايات طريفة من حياتها اليومية كجدة ومُعيلة لأم مسنّة، فضلًا عن رسائل قديمة كتبتها إلى شقيقتها قبل عقود.
إنه نص ينثال كتيار وعي متواصل، يصطحب القارئ عبر موجات متعاقبة من اليأس والغضب والمرح، بينما تعمل توز على جمع شظايا ماضيها المبعثر. ومن خلال هذه الشذرات، يتكشف أنّ سؤالها عن الكتابة ليس منفصلًا عن سؤالها عن الحياة ذاتها، بل متشابك معها بعمق، كأنّ الكتابة بالنسبة إليها هي الامتداد الطبيعي لرغبتها في الاستمرار في الوجود.
تلك الرسائل التي كتبتها ميريام توز إلى شقيقتها مارج، قدّمتها لاحقًا إلى لجنة الفعالية في مكسيكو باعتبارها جوابها على سؤال: «لماذا أكتب؟». غير أنّ اللجنة رأت، كما تنقل توز، أنّ هذه «الرسائل الصبيانية» غير مناسبة للغرض المطلوب. لكن توز أصرّت أمامهم قائلة: «مارج هي السبب في كوني كاتبة. لقد طلبت مني أن أكتب، فاستجبت. لم يخطر ببالي من قبل أن هذا هو أصل الحكاية».
ويكشف كتاب «هدنة ليست سلامًا» أنّ الطلب الأول جاء عام 1982، حين كانت مارج في الرابعة والعشرين من عمرها، بعد أن تركت مقاعد الجامعة وعادت إلى غرفة نوم طفولتها في شتاينباخ، حيث انسحبت من الكلام تمامًا. كتبت توز متسائلة: «هل علّمها والدي ذلك؟». ومنذ ذلك الحين صارت مارج تكتب على أوراق صفراء مسطّرة، جملها الأنيقة تبدأ مستقيمة ثم تميل في نهايتها إلى الانحدار، كأنها قضبان صيد مثقلة بخيوط مشدودة.
عندها طلبت مارج من أختها أن تكتب بدلاً منها. وكانت ميريام، في الثامنة عشرة، تستعد لرحلة إلى أوروبا مع صديقها. فأجابتها ببساطة حاسمة: «نعم، سأكتب. أنتِ تعيشين… وأنا سأكتب». لترد مارج بابتسامة وكلمة واحدة: «صفقة».
بعد مرور ثمانيةٍ وعشرين عامًا، ومع رحيل مارج، وجدت ميريام توز نفسها غارقة في تأملٍ حارق حول السبب الذي دفع شقيقتها – ووالدها قبلها – إلى اختيار «الصمت المربك»: صمتٌ مؤقت في البداية، ثم أبدي لا رجعة فيه. وقد رأت توز في أول الأمر أن رغبتها المُلِحّة في الكتابة، كوسيلة لملء هذا الفراغ، تتناقض مع رفضهما المطلق للكلام. لكنها سرعان ما أخذت تختبر هذه الفرضية، متسائلةً إن كان الصمت ذاته «البديل المنضبط للكتابة». ومع التكرار، أدركت أن الكتابة – على الرغم من عجزها عن إنقاذ حياة أختها – منحتها شكلاً آخر من البقاء، إذ أبقت حضورها حاضرًا.
تكتب توز ملاحِظةً: «الصمت والكتابة، إن لم يكونا الشيء نفسه تمامًا، فهما على الأقل حليفان؛ كلاهما يراوغ ما لا يمكن قوله، وكلاهما وسيلة للتشبث». وهكذا، تتحول الكتابة إلى مجال زمني ممتد تستطيع فيه أن تُطيل لحظة البقاء مع والدها وأختها، ولو عبر الحروف والسطور.
من هذا المنظور، يغدو كتاب «هدنة ليست سلامًا» بمثابة تتويج لمشروع توز الممتد طوال مسيرتها الأدبية: محاولة إحياء أفراد عائلتها عبر النص، بكل ما في حياتهم من بهجة وألم، من خفةٍ وثِقل. ومع ذلك، يغادر القارئ الكتاب وهو يدرك أنّ توز لن تكفّ عن الكتابة؛ فهي ستواصل الكتابة من أجل مارج، وفي كثير من الأحيان إلى مارج، باحثةً عنها في المسافة الرقيقة التي تتشكّل بين الصمت والكلمات.
https://www.sahat-altahreer.com/%d8%a3%d8%b5%d8%b9%d8%a8-%d8%b3%d8%a4%d8%a7%d9%84%d9%8d-%d9%8a%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a7%d8%aa%d8%a8%d8%a5%d9%82%d8%a8%d8%a7%d9%84-%d8%b9%d8%a8%d9%8a%d8%af/
أصعب سؤالٍ يواجه الكاتب!
ترجمة : إقبال عبيد*
بالنسبة إلى الكاتبة الكندية ميريام تووز، تمثّل الكتابة وسيلةً وجودية لمواجهة المسكوت عنه، وللتعايش مع ما يعجز اللسان عن التصريح به.