كيف صاغ مفهوم "الغريب" لدى سيغموند فرويد ملامح الفن؟
ترجمة : إقبال عبيد
كتابة : الدكتورة فيكتوريا سي. روسكامز، دكتوراه في الأدب الإنجليزي
حين نشر سيغموند فرويد مقالته الشهيرة عام 1919، كان يكتب عن الأدب، لكن صداه ارتدّ بأقصى قوة في فضاءات الفنون البصرية، وبالأخص في محراب الفن السريالي. هناك، حيث تلتقي الحواس باللاوعي، وجد الفنانون في تحليلاته مفتاحًا لبوابةٍ تفضي إلى أعماق النفس المظلمة والمضيئة في آن.
فرويد لم يرَ "الغريب" مجرد إحساسٍ عابر بالقلق أو الخوف تُثيره غرابة المشهد أو ندرة المألوف؛ بل هو ذلك الرجَف الخفي الذي يعتري الروح أمام الأشياء التي تتقاطع مع ذاكرتنا اللاواعية: دمى تنبض بحياة وهمية، أطرافٌ مبتورة تتحدى اكتمال الجسد، أو وجوهٌ تشبهنا حتى حدود الارتباك. هذه الصور، في رأيه، تستدعي ما كبتناه طويلًا من مشاعر متشابكة بين لذةٍ غامرة وألمٍ دفين، فتطل من أعماق اللاوعي بسطوةٍ مقلقة، كما لو أنها عادت لتطالب بحقها في الوجود.
في زمنٍ كان فيه الفن الحديث يخطو نحو التجريد، جاءت أفكار فرويد لتضخ في الحركة السريالية نبضًا تحليليًا نفسيًا، مانحةً إياها قدرةً على الغوص في أحلام البشر ودهاليز اللاوعي، حيث تختلط الرؤى بالمخاوف، ويتحول "الغريب" إلى مادة خام لصياغة الجمال المربك.
سيغموند فرويد والفن الحديث: الأحلام واللاوعي
في ذاكرة الفن الحديث، يقف اسما سيغموند فرويد والسريالية جنبًا إلى جنب، وكأنهما وجهان لمرآة واحدة تعكس الحلم في نصفها الأول واللاوعي في نصفها الآخر. فمنذ أن نشر فرويد كتابه الشهير "تفسير الأحلام" عام 1899، قبل عقدين من مقالته "الغريب" عام 1919، كان قد فتح بوابةً فكرية على عالمٍ تتجاور فيه الرغبات الدفينة والمخاوف المطمورة، لتتجسد في صورٍ غامضة تنبض برمزية مقلقة.
يرى فرويد أن الأحلام ليست مجرد مسرحٍ هلامي للأحداث، بل مسرحٌ داخلي تُعرض عليه أشدّ رغباتنا إحكامًا في الإخفاء، وأعمق مخاوفنا التي نحاول طمسها. وما يجعل الحلم غريبًا، في نظره، هو تلك اللحظة التي تنكشف فيها أشياء "كان ينبغي أن تبقى... خفيةً وسريةً"، فإذا بها تطفو إلى السطح في مشهدٍ يجمع بين الألفة المطمئنة والغرابة المربكة.
وفي لوحة Interno metafisico con stabilimento لجورجيو دي كيريكو (1953)، تبدو المساحات الصامتة والهندسة الميتافيزيقية كأنها تجسيد بصري لهذا التوتر بين المعلوم والمجهول، بين ما يهمس به اللاوعي وما يفرضه الواقع، لتصبح اللوحة نفسها حلمًا مؤطرًا بظلال الغرابة الفرويدية.
دالي، رحلة النحلة
في لوحة سلفادور دالي "حلمٌ ناتج عن تحليق نحلة حول رمانة قبل ثانية من الاستيقاظ" (1944)، يلتقي الحلم باليقظة على حافةٍ شفافة، حيث يذوب الزمن في لحظةٍ واحدة ممدودة إلى ما لا نهاية. تبدو عناصر اللوحة مألوفة: نحلة، رمانة، بحر صافٍ، وشخص نائم، لكن دالي يمدّ هذه الألفة بخيوطٍ من الخيال المقلق، فيحوّل اليومي إلى مشهدٍ مُعلّق بين الواقع واللاواقع، بين ما تراه العين وما يتداعى في اللاوعي. هذا المزج هو جوهر السريالية: أن تلتقط من العالم المألوف ما هو بسيط، ثم تزرع فيه بذور الغرابة حتى يصير مشهدًا أسطوريًا يفيض بالرمزية المحتملة.
تانغي، ماما، بابا جريح
أما في لوحة إيف تانغي "ماما، بابا جريح!" (1927)، فينتقل المشهد إلى عالم آخر أكثر تجريدًا، حيث تتبخر ملامح الواقع تاركة خلفها فضاءً غامضًا تتناثر فيه أشكال عضوية وتكوينات شبه مستحيلة. هذه اللوحة، شأنها شأن أعمال جورجيو دي كيريكو في مرحلته الميتافيزيقية، تجسد ما وصفه فرويد بـ"شعور العجز في الحلم"؛ ذلك الإحساس الخفي الذي يداهمنا حين نصطدم في المنام بأشياء طُمرت في أعماق النفس، فإذا بها تعود وقد تغيّر شكلها ولونها وطبيعتها، لكنها لا تزال تحتفظ بقوة حضورها المربك.
دي كيريكو والميتافيزيقا البصرية
في لوحات دي كيريكو، تتجاور أشياء متباعدة في المعنى لكنها متماسكة في المشهد: تماثيل كلاسيكية وظلال طويلة، ساحات مهجورة ومبانٍ هندسية صارمة. هذه التوليفات تخلق حالة من "اللازمان" و"اللامكان" تجعل المشهد كأنه جزء من حلم يتأرجح بين الدقة المفرطة واللامعقول. وعلى نحوٍ مشابه، تملأ أعمال تانغي فضاءات شبه قاحلة بأشكال تجريدية، أشبه بظلالٍ لأشياء كانت يومًا واقعية، ثم تحوّلت إلى أطيافٍ معلقة في عالمٍ لا يخضع لقوانين الفيزياء ولا المنطق.
بهذا، تتضح الصلة الخفية التي شدّت خيوط فرويد النظرية إلى ريشة السرياليين والميتافيزيقيين: الحلم بوصفه مسرحًا لما هو مألوف وغريب، مريح وموحش، حقيقي ومتخيّل، في آن واحد.
كارينغتون، ابنة مينوتور
في لوحة ليونورا كارينغتون "ثم رأينا ابنة المينوتور" (1953)، يتجسد العبور بين الأسطورة والحلم في مشهدٍ يختلط فيه السكون بالغموض. ورغم أن كارينغتون لم تكن على نفس القدر من الانغماس في الفكر الفرويدي ككثيرٍ من رفقائها السرياليين الذكور، إلا أنها امتلكت لغة بصرية خاصة، تحيك الواقع بخيوط الأسطورة، وتدمج المألوف باللامألوف في نسيجٍ واحد.
كانت أعمالها تشبه صفحات من رواية واقعية سحرية، حيث الأبواب المألوفة تفضي إلى عوالم أخرى، والكائنات الأسطورية تتنفس في أروقة الحياة اليومية. هذا المزج بين الأشياء العادية ولمسات التفرّد يخلق إحساسًا غريبًا بالألفة الممزوجة بالدهشة، وكأننا أمام حلمٍ هادئ يُخفي في أعماقه طوفانًا من الرموز.
موسيقى ليلة صغيرة (1943)
في لوحتها "موسيقى ليلة صغيرة" (1943)، تحوّل دوروثيا تانينغ المساحات المألوفة – غرف المعيشة، ممرات الفنادق، الأروقة الصامتة – إلى مسارح لاضطرابٍ خفي، يطل من بين تفاصيلها كما يطل الحلم من بين ثنايا اليقظة. فهي تمسك بيد الواقع لتقوده خطوة إلى عالمٍ آخر، حيث الجدران تنبض بإيحاءات غامضة، والفضاء المنظم يتلوّن بهواجس لا تُرى.
إنها القدرة على زراعة القلق في قلب المألوف، وعلى جعل اليوميّ يكتسب ملامح الحلم الملتبس، الذي يظلّ معلقًا بين الراحة والانزعاج، بين الألفة والغرابة، في توازنٍ بصري يفتح أبواب اللاوعي على مصراعيها.
النسخة المُشابهة لرينيه ماغريت (1937)
في لوحته "نسخة مُشابهة" (1937)، يفتح رينيه ماغريت نافذةً على واحدٍ من أكثر مفاهيم فرويد إرباكًا: الازدواج. فالنسخة، سواء كانت انعكاسًا في مرآة، أو ظلًا مراوغًا، أو توأمًا غير مُتوقَّع، تحمل في طياتها بذرة الغرابة. إن مواجهة نسخةٍ مُخيفة من الذات ليست مجرد لحظة بصرية عابرة، بل صدمة وجودية تستحضر – كما أشار فرويد – كل المسارات الممكنة التي لم تُعاش، وكل الطموحات التي سُحقت تحت ثقل الظروف، وكأننا نلتقي بالأشباح التي كنا سنصبحها لولا أن الحياة اختارت لنا طريقًا آخر.
هنا، يتحوّل الازدواج إلى مرآة مُعتمة، تعكس فنائنا المحتوم، وتزعزع يقيننا بهويتنا، حتى نصبح غير قادرين على الجزم: أين يبدأ "أنا" وأين ينتهي؟ هذا التشويش الوجودي هو جوهر الغرابة الفرويدية كما التقطتها ريشة السرياليين، إذ يجعل من الصورة انعكاسًا للروح، ومن الغرابة طريقًا إلى وعي الذات عبر صدمتها.
غالبًا ما ينسج رينيه ماغريت لوحاته بخيوط التكرار، كما لو كان يعيد صياغة المشهد البصري ليكشف طبقاتٍ أعمق من المعنى. في "الوضعية الساحرة" (1927)، التي قام لاحقًا بتقطيعها إلى أجزاء ورسم فوقها، وفي "السر المزدوج" من العام نفسه، ينقلب الوجه إلى فسيفساء من ذاته، مُجزّأ في صورته الأصلية، وكأن الهوية تُعاد هندستها أمام أعيننا. وتستمر هذه اللعبة البصرية في "النسخة المُكررة المُتقطّعة" (1937) و*"أسرار الأفق"* (1955)، حيث تتجاور شخصيات متشابهة، تُرى من زوايا مختلفة قليلًا، في إيحاءٍ بأننا أمام حضورٍ واحد يتشظى في الزمن والمكان.
أما ريميديوس فارو، فتبحر في مناظر حلمية تُحاكي، في روحها، الواقعية السحرية التي تتردد أصداؤها في أعمال ليونورا كارينغتون. شخصياتها غريبة الأطوار، تتكرر على نحو خفيّ داخل اللوحة ذاتها، كما في "المشعوذ" (1956)، حيث تظهر نسخ متقاربة من الكائن نفسه، متماهية في ملامحها حدّ الالتباس. هذا التكرار المراوغ لا يكتفي بزعزعة إدراكنا البصري، بل يفتح سؤالًا أعمق حول جوهر الفردية: متى يتوقف الكائن عن أن يكون هو ذاته، ويبدأ في أن يكون ظلًا أو صدى لآخر؟
كلود كاهون – Que me veux-tu? (1929)
لم يقتصر أثر نظرية سيغموند فرويد عن "الغرابة" على فضاء اللوحة السريالية، بل تسلّل أيضًا إلى فن التصوير الفوتوغرافي، حيث جعلت كلود كاهون من الانعكاس والتكرار أدواتٍ جوهرية في صياغة بورتريهاتها الذاتية. في عملها "Que me veux-tu?" (1929)، يطلّ الثنائي البصري ككائنٍ يختزن في آنٍ واحد الإغواء والتهديد، الجاذبية والنفور؛ فهو "الآخر" الذي قد يكون نسخة مستقبلية منا، أو ظلًّا يهدد استقرار هويتنا الراهنة.
بالنسبة لكاهون، التي كسرت القوالب الجندرية وتجاوزت الحدود الصارمة بين المذكر والمؤنث، لم تكن هذه الازدواجية مجرد لعبة شكلية، بل كانت بيانًا وجوديًا. فالثنائي هنا ليس انعكاسًا محايدًا، بل كيانًا يسائل الذات عن حقيقتها، ويضعها أمام مرآة لا تعكس ما هو كائن فحسب، بل أيضًا ما كان يمكن أن يكون، وما قد يصبح.
الدمى والتقطيع – سيغموند فرويد ودمية بيلمر
في أحد أقسام كتابه "الغريب"، يتوقف سيغموند فرويد عند قصة "رجل الرمل" (1817) للكاتب إي. تي. إيه. هوفمان، الذي يصفه بأنه "أستاذ لا يُضاهى في استحضار الغرائب". ركز فرويد تحليله على عقدة الإخصاء الكامنة خلف خوف بطل القصة من أن يقتلع "رجل الرمل" عينيه، غير أن القصة تحمل عنصرًا آخر لا يقل إزعاجًا: دمية خشبية واقعية حد القلق، تُدعى "أولمبيا"، تبدو وكأنها تتأرجح على حافة الحياة والموت.
فالدمى، والعارضات، والدمى المتحركة، والآلات الآلية، كلها قادرة على زعزعة قدرتنا على التمييز بين الحقيقي والخيالي، إذ تعيد إلى السطح أوهام الطفولة حين كنا نعتقد أن ألعابنا تنبض بالحياة. وتبلغ الغرابة ذروتها حين نعجز عن فهم مصدر حركتها أو آليتها، ويزداد الأمر اضطرابًا حين تُضاف طبقة التحليل النفسي المتمثلة في عقدة الإخصاء، فنشعر بنفور عميق أمام أجزاء الجسد المبتورة التي تبدو وكأنها تحتفظ ببصيص من الحياة.
هنا يطلّ الفنان السريالي الألماني هانز بيلمر، الذي كان أستاذًا في استكشاف هذه المنطقة المظلمة من الخيال. متأثرًا على ما يبدو بأوبرا جاك أوفنباخ "حكايات هوفمان" المقتبسة من "رجل الرمل"، ابتكر بيلمر عام 1933 دمية بالحجم الطبيعي لفتاة صغيرة، فكك أوصالها وأعاد تركيبها مرارًا، ملتقطًا لها صورًا في أوضاع متعددة، ضمن سياقات مسرحية مقلقة. وعندما نُشرت هذه الصور تحت عنوان "الدمية" عام 1934، جذبت أنظار رموز السريالية، وعلى رأسهم أندريه بريتون في باريس، لما تحمله من تحدٍّ مباشر للنظرة الموضوعية نحو الجسد الأنثوي، بعد أن تحوّل في يد بيلمر إلى فسيفساء مفككة من الرغبة والاغتراب.
من بين المصورين السرياليين الذين دفعوا حدود الصورة الفوتوغرافية إلى تخوم الغرابة، برزت كلود كاهون ودورا مار بوصفهما رائدتين في إعادة تشكيل الجسد داخل سياقات غير مألوفة. في عمل كاهون "أنا أميل إلى حمالات الصدر" (1931/1932)، تمتد ذراعان من عمق جدار صامت، كما لو كان الجدار نفسه يلد الجسد، أو كما لو أن أطرافًا بشرية تحاول الإفلات من بُعد آخر.
أما دورا مار، التي عُرفت أيضًا كمُلهمة وموضوع للعديد من لوحات بابلو بيكاسو، فقد قدّمت خلف الكاميرا لغة بصرية مبتكرة، يتجلى أحد أبرز أمثلتها في عملها "بدون عنوان (صدفة يد)" (1934)، حيث تنبثق يد بشرية من قلب صدفة بحرية، في مشهد يُربك الحواس ويقلب المعادلة بين ما هو عضوي وما هو معدني، بين الحياة الجامدة والحياة النابضة.
في كلا العملين، يتجسد الجسد ككيان هجين، نصفه واقع ونصفه حلم، فتتحول الأعضاء البشرية إلى رموز غامضة تستدعي أسئلة فرويدية عن الهوية، والرغبة، والخوف الكامن في رؤية ما ينبغي أن يظل مستترًا وقد خرج إلى النور.
يد–صدفة
في عملها "بدون عنوان (صدفة يد)" (1934)، تلتقط دورا مار لحظة مُربكة للحدس البشري: يد بشرية تنبثق من قلب صدفة بحرية، كما لو أن البحر نفسه أنجب كائنًا نصفه إنسان ونصفه محارة. المشهد يحطم حدود الأجناس الطبيعية، ويزرع في عين المشاهد شعورًا متأرجحًا بين الدهشة والنفور، بين الإعجاب بجمال الشكل والتساؤل عن طبيعته.
هذا الاضطراب البصري وجد صداه لاحقًا في أعمال مصورين معاصرين استغلوا الإمكانيات الفريدة للكاميرا في التلاعب بإحساسنا بالزمن والحياة. ففي عام 1999، أطلق هيروشي سوجيموتو سلسلته الشهيرة "بورتريهات"، حيث وجّه عدسته نحو تماثيل شمعية لشخصيات تاريخية بارزة، وحوّلها عبر دقة الإضاءة والعدسة إلى صورٍ تكاد تنبض بالحياة. النتيجة كانت مشاهد تسلبنا يقيننا بما نراه، فنقف أمام صور تشبه الواقع إلى حد الإقناع، لكنها تظل أسيرة الصمت الأبدي للماضي.
هيروشي سوجيموتو – سلفادور دالي / سيندي شيرمان – بدون عنوان #345
في عام 1999، التقط هيروشي سوجيموتو صورة لتمثال شمعي لسلفادور دالي، فحوّله بعدسته إلى حضور يكاد يتنفس، ممسوحًا من سياقه المتحفي ومعلّقًا في لحظة زمنية لا تنتمي إلى الحاضر ولا إلى الماضي. تلك القدرة على بث الحياة في الجماد عبر الكاميرا وجدت صداها في أعمال مصورين آخرين، من بينهم سيندي شيرمان، التي منذ سبعينيات القرن الماضي جعلت من جسدها نفسه مسرحًا للتحوّل.
في سلسلتها "بدون عنوان"، وتحديدًا في الصورة رقم 345 (1999)، تشير شيرمان بوضوح إلى إرث هانز بيلمر، مُفككة جسد دمية أنثوية، ثم تعيد تجميعه في تكوينات غريبة تُزعزع تماسك الشكل الإنساني. هنا، يتبدل الجسد إلى لغز بصري، يراوح بين أن يكون جسدًا بشريًا أو كائنًا اصطناعيًا، بين صورة واقعية وصدى لكابوس فرويدي. النتيجة مشهدٌ يختلط فيه الانجذاب بالنفور، وتتجسد فيه "الغرابة" كما صاغها فرويد: ما هو مألوف حتى الجذور، وغريب حتى العظم.
الفن الحديث والواقع المُقلق – رينيه ماغريت
قد يكون من العسير الإمساك بتعريفٍ جامع لما هو "غريب"، حتى أن سيغموند فرويد خصص في مقالته الأصلية جزءًا واسعًا لوصف ما لا يندرج تحت هذا المفهوم. لكن بالنسبة للسرياليين ومن تبعهم، صار "الغريب" مرادفًا لأي رؤية تهز يقيننا بالواقع: سواء أتت من رحم اللاواقعية، أو من عالم الأحلام، أو من السحر، أو من المبالغة المتعمدة في تصوير المألوف، بحيث يكشف ما هو عادي عن طبقات القلق والكبت الكامنة في أعماقنا.
في هذا الإطار، تمثل لوحة رينيه ماغريت "الرجل مع الجريدة" (1928) درسًا بصريًا في تحويل البسيط إلى مثير للاضطراب. تتألف اللوحة من أربع مشاهد داخلية تبدو متماثلة للوهلة الأولى؛ في المشهد الأول يظهر رجل يحمل جريدة، بينما الثلاثة الأخرى تخلو من حضوره. غير أن التدقيق يكشف عن تغيّرات طفيفة في زوايا المنظور وتفاصيل التكوين، مما يترك المشاهد في حالة حيرة: أين اختفى الرجل؟ ولماذا هذا التكرار الموارب؟
بهذا التلاعب البصري، يحوّل ماغريت ما يشبه لعبة "اكتشف الفروق" إلى تجربة ذهنية، يتقاطع فيها المنطق مع اللاوعي، ويصبح الغياب حضورًا بحد ذاته، والاختلاف الطفيف ممرًا إلى واقعٍ مقلق، يقف على الحدود بين المألوف والغرابة.
مار – من عدسة دورا مار إلى عوالم ديفيد لينش
في عملها الفوتوغرافي "المُحاكي" (1936)، تُحوّل دورا مار غرفةً تبدو للوهلة الأولى مألوفة إلى فضاء مُضطرب، حيث يقف صبيٌّ بجسدٍ ملتوٍ، معلقًا بين النشوة والألم. هذه المساحات البريئة التي تُخفي توترًا داخليًا تلتقي مع روح الغرابة الفرويدية، إذ تُربك الحواس وتضع المشاهد أمام مشهد لا يمكن حسم طبيعته.
على نحو مشابه، تستدعي سيندي شيرمان الغرابة عبر جوّ بصري يفيض بالحنين المموّه، مذكّرةً بقدرة التصوير على جعل الغائب يبدو حاضرًا. في سلسلتها "الاشمئزاز"، التي تضم أعمالًا تُطلق عليها اسم "الصور", تتحوّل أشياء عادية — كقطع الطعام، وقوارير الدواء، وأدوات المكياج — إلى رموز للتحلل والانحلال، حيث يتآكل الجمال المألوف حتى يصبح صورة للزوال.
وأبعد من فضاء الصورة الثابتة، وجدت الغرابة طريقها إلى الشاشة في أعمال ديفيد لينش، الذي جعل من مسلسله "توين بيكس" (1990–1991، 2017) مثالًا صارخًا على زعزعة الألفة. تدور أحداثه في بلدة أمريكية هادئة، لكن وجود روح شريرة غامضة يتنقل بين ملامحها اليومية يزرع قلقًا مستمرًا. ومن خلال رموزه البصرية — الأشجار الكثيفة، طيور البوم، جذوع الأشجار، الشخصيات المزدوجة مثل لورا بالمر وابنة عمها مادي فيرجسون، والمناظر الحلمية كالغرفة الحمراء الغامضة — صنع لينش أيقونات سريالية خالدة، حيث يتجاور الحلم والكابوس في إطار واحد.
ديفيد لينش – الغرفة الحمراء في توين بيكس
في عالم توين بيكس، تبرز الغرفة الحمراء بوصفها أيقونة بصرية يصعب محوها من الذاكرة: مساحة بسيطة في مكوناتها، لكنها غريبة في جوهرها. الأرائك والمصابيح تملأ المشهد بألفةٍ منزلية، فيما يقف تمثال فينوس كإشارة إلى عوالم دي كيريكو الميتافيزيقية، حيث يتقاطع الحلم مع الواقع. غير أن هذه الألفة تُقلب رأسًا على عقب حين يبدأ الناس في الحديث بالعكس، وكأنهم نسخ مقلوبة لأنفسهم، متماثلة في الملامح، مختلفة في الإيقاع والجوهر.
وكما في أعظم تجليات "الغرابة" الفرويدية، لا تنبع جاذبية الغرفة الحمراء من الشر المحض، بل من قدرتها على التسلل إلى لاوعينا: فهي تشدّنا بفتنة غامضة، وفي الوقت نفسه تزرع فينا قلقًا لا نفهم مصدره، لتصبح مكانًا يقف على الحافة الدقيقة بين الإغواء والانزعاج، بين الألفة والغرابة.
https://www.sahat-altahreer.com/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%b5%d8%a7%d8%ba-%d9%85%d9%81%d9%87%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d9%8a%d8%a8-%d9%84%d8%af%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%ba%d9%85%d9%88%d9%86%d8%af-%d9%81%d8%b1%d9%88%d9%8a/
كيف صاغ مفهوم “الغريب” لدى سيغموند فرويد ملامح الفن؟
ترجمة : إقبال عبيد
كتابة : الدكتورة فيكتوريا سي. روسكامز، دكتوراه في الأدب الإنجليزي
حين نشر سيغموند فرويد مقالته الشهيرة عام 1919، كان يكتب عن الأدب