ولادة الأدب من رحم الأزمة النفسية القسرية
عندما يُذكر اسم هيرمان هِسّه، يتجلى في الأذهان كأديب فلسفي يتسم بنزعة تأملية صوفية، يسبر أغوار النفس الإنسانية بحثًا عن الخلاص والهوية. غير أن هذا العمق الذي يعكسه لم يكن نتاج تأملات أكاديمية فحسب، بل هو ثمرة تجربة نفسية قاسية عاشها في سنوات مراهقته الأولى، تركت أثرًا عميقًا شكلت جل إبداعه الأدبي اللاحق. فبين عيادات العلاج النفسي وغُرف العزلة والمدارس الدينية، تشكلت ملامح هِسّه كمبدعٍ يعاند النمط، ويرفض الخضوع، ويتأمل الوجود من زوايا التمزق بدلاً من الطمأنينة.
وُلد هيرمان هِسّه في عام 1877 بمدينة كالف الألمانية، داخل عائلة بروتستانتية تنغمس في مجالات التبشير والطباعة والنشر الديني. وكانت البيئة المنزلية التي نشأ فيها مشبعة بالقيم الأخلاقية الصارمة والنزعة الدينية العميقة، مما أوجد في أعماقه، منذ طفولته الباكرة، صراعًا داخليًا بين عالم الروح الذي فُرض عليه قسراً، وعالم الذات الذي بدأ يصرخ في دواخله مطالبًا بالتحرر والانعتاق.
عند بلوغه الخامسة عشرة من عمره، التحق بمدرسة "ماولبرون اللاهوتية"، تلك المؤسسة التربوية العريقة التي تشتهر بصرامتها القاسية. كان يُفترض بها أن تُعدّه ليصبح قسيسًا أو رجل دين، ولكن في أعماقه كان يعيش شاعرًا متمردًا، بعيدًا عن طاعة الكهنة. وبعد أشهر من المعاناة والانغلاق النفسي، هرب من المدرسة في عام 1892 دون إذن، ليُلقى القبض عليه ويُعاد بالقوة، مما أسفر عن دخول حياته في نفق مظلم من الضغوط النفسية.
بعد محاولة الهروب، بدأ هِسّه يعاني من أعراض اضطراب نفسي صارخة، تجلّت في نوبات من القلق العميق، والاكتئاب المظلم، والغضب المتفجر، بالإضافة إلى لحظات من الانعزالية والانهيارات البكائية المفاجئة. عوضًا عن أن يعترف أسرتها بحقها في التمايز ورغبتها في حياة مليئة بالإبداع، تعامل مع حالته وكأنها "عطب سلوكي" ينبغي إصلاحه.
نُقل إلى مصحّة نفسية في مدينة باد بول، وهي خطوة يمكن اعتبارها اليوم بمثابة "احتجاز قسري بدوافع اجتماعية ودينية". عانى هِسّه في تلك المصحة من الإهمال الجسيم والتشخيص الخاطئ، مما جعل تجربته هناك مؤلمة على الصعيد النفسي ومهينة على الصعيد الإنساني. وقد وصف لاحقًا تلك الفترة بأنها كانت قادرة على "تحطيم أي روح لم تجد مأمنًا في عالم الأدب".
خرج هِسّه من تجربته مُحطّمًا جسديًا، لكنه أصبح أكثر إصرارًا على رسم مساره بنفسه. عزم على ألا يُجبر مرةً أخرى على السير في دروب لا تستهويه. تخلى عن الدراسة الدينية، وبدأ العمل في مكتبة ثم في متجر ساعات، لكنه كان يجد في وحدته الوقت لكتابة القصائد، ورسم أفكار أولية لروايات لم تُكتب بعد.
كتب فيما بعد:
"في كل مرة كدت أن أُخنق، كنت أعود إلى الكتابة. لم يكن لدي سلاح سواها. لم تكن الكتابة هروبًا، بل كانت مقاومة."
الأزمة النفسية كأساس أدبي راسخ أبدع من خلالها بكتابات تجسد الواقع المعاش ومن تلك الروايات التي سنتحدث عنها :
رواية "تحت العجلة" (Unterm Rad, 1906): وتعتبر السيرة الذاتية في ثوب مُقنّع تحت شخوص وأحداث تُعتبر رواية "تحت العجلة" أولى مغامرات هِسّه في تحويل آلامه النفسية إلى نص روائي متكامل يعكس عمق تجربته. كتبت في مراحل مبكرة من حياته الأدبية، وقد استلهمت بشكل مباشر من تجربته في مدرسة "ماولبرون" والمشاعر القاسية التي قادته إلى عتبة المصحّة النفسية.
بطل الرواية، هانز غيبيلي، هو تلميذ لامع ينغمر تحت وطأة التوقعات الأكاديمية والاجتماعية والدينية. يراه الجميع عبقريًا مُدجّجًا بأحلام المجد، لكنه في أعماقه يشعر بالهشاشة والانكسار، ويتوق إلى بساطة الحياة وجمال الطبيعة وحرية الروح. بعد سلسلة من الأحداث المتلاحقة، ينهار عقله، ويُفصل من المدرسة، ليجد نفسه في نهاية المطاف وحيدًا وغريبًا في عالم لا يُقدّر إنسانية الفشل.
الرواية، رغم بساطتها البنيوية، تُقدِّم أطروحة هِسّه المبكّرة:
إن الأنظمة التعليمية القاسية والسلطوية ذات الطابع الديني قادرة على إخماد جذوة الروح، إذ لا تكفي الموهبة وحدها إن لم تجد ملاذًا نفسيًا يحتضنها ويحتويها.
ما يضفي على القصة عمقًا جليلاً هو أنها تُدين منظومة كاملة بصوت رصين، وليس فردًا بعينه. فالقسوة التي دفعت بالبطل إلى حافة الجنون ليست نتاج قسوة أفراد، بل هي "قسوة التوقعات الجمعية"، كما يصفها هِسّه في وقت لاحق.
"دميان" (Demian, 1919): هنا الانتقال من الانكسار إلى الوضوح
تُعتبر رواية دميان تجسيدًا لمرحلة أكثر نضجًا في رحلة هِسّه النفسية والروحية. وقد أبدعها بعد أن عانى من انهيار عصبي آخر خلال أتون الحرب العالمية الأولى، وبعد تجربة علاجية مكثفة مع الطبيب النفسي كارل غوستاف يونغ، الذي كان له دور أساسي في إعادة صياغة رؤيته لنفسه وللعالم من حوله.
دميان ليست رواية عن الاكتئاب فحسب، بل عن الصراع بين العالم الخارجي (السلطة، الدين، الأعراف) والعالم الداخلي (الحدس، الرغبة، الظل). يمضي البطل، إميل سنكلير، في رحلة استكشافية تنبع من لقائه الغامض مع الفتى دميان، ليتعثر أمام أعماق ذاته المظلمة. يتجلى في هذه الرحلة الصراع الأزلي بين النور والظلام المكنونين في قلب الإنسان، حيث يواجه الازدواجية التي تعكس تعقيدات النفس البشرية.
تتجلى الهواجس النفسية في رواية دميان بشكل أكثر وضوحًا وجسارة، حيث يأخذ "التحليل النفسي" مكان الرسالة الدينية، لتتحول الرواية إلى مختبر داخلي يستكشف أعماق النفس البشرية. هنا، تتجسد بصمات يونغ في مفاهيم عميقة مثل "الأنيموس"، و"الظل"، و"الذات الكلية"، مما يجعل من النص رحلة فكرية في خبايا الروح.
بل إن دميان يمكن اعتبارها وثيقة شخصية أكثر منها رواية، كتبها هِسّه تحت اسم مستعار (إميل سنكلير نفسه)، وكان يرى فيها امتدادًا لمعاناته مع المرض النفسي، وتحقيقًا متدرّجًا للشفاء عبر الأدب.
"سدهارتا" (Siddhartha, 1922): من تفكك الذات إلى واحة السكينة الروحية
يُعتبر سدهارتا العمل الأكثر عمقًا وتأملاً في مسيرة هِسّه، حيث يتناول "علاج النفس" ليس من خلال أروقة الطب النفسي، بل عبر سبل الفلسفة الشرقية، وبشكل خاص التعاليم البوذية والتاوية. تأتي هذه الرواية في إطار ما بعد المعاناة، حيث يتحول الكاتب إلى "ناسِك أدبي"، يرقب العالم من أعماق ذاته، بدلاً من مشاهدته من الخارج.
سدهارتا، البطل العظيم، يرفض بكل شجاعة كل أنواع السلطة الروحية المفروضة عليه، سواء كانت تمثلها الكهنة أو مظاهر التقشف أو حتى رمز النور بوذا. إنه في بحث مستمر عن الحقيقة التي تنبع من أعماق ذاته، يخوض رحلة شاقة تبدأ بتيه روحي عميق وتنتهي بنوع من الاتحاد الكوني مع الوجود. وفي لحظة تأملية ساحرة، حين يجلس سدهارتا على ضفاف النهر، نستشعر صدى هِسّه الداخلي الذي بلغ ذروة الطمأنينة والسلام.
"لقد جرّبت الكراهية والحب واللذة والألم، عشت في القصور وفي الغابات، والآن… صرت نهرًا."
الرواية تُعبّر عن ما وصفه هِسّه لاحقًا بـ "الشفاء عبر المعرفة الباطنية"، حيث لا يصبح الأدب وسيلة للنجاة فحسب، بل أداة للتجاوز الوجودي.
من معاناة الألم إلى دروب الحكمة – الذات المنعزلة في "ذئب البوادي" و"لعبة الكريات الزجاجية"
تُعتبر رواية ذئب البوادي (Der Steppenwolf, 1927) تجسيدًا للمرض كوسيلة للتمرد والتحول. بعد أن انفصل عن زوجته وفقد والده، وواجه نوبة اكتئاب شديدة، أبدع هيرمان هِسّه في كتابة ذئب البوادي، التي تُعدّ إحدى أكثر أعماله إيلامًا، حيث تعبر بعمق عن المعاناة الداخلية. لكنها تتجاوز ذلك إلى تناول فكرة "التصدّع النفسي" ليس كعيب أو تشوّه، بل كضرورة وجودية تسهم في التحول والشفاء.
هاري هالر، بطل الرواية، هو شخصية منقسمة بين "الإنسان المتحضّر" و"الذئب الوحشي"، يعيش في عزلة قاتلة، يكتب مذكراته كأنه يستعد للانتحار، ولا يجد مكانًا له في العالم الحديث الذي يراه سخيفًا ومفرغًا من المعنى. حتى الموسيقى التي يحبها (موتسارت) لا تشفع له، لأنه يراها معلقة في "زمن انتهى".
لكن الرواية، على الرغم من بداياتها المليئة باليأس، تُختتم بنورٍ من الإبصار الداخلي. يدخل هالر إلى "مسرح السحر"، وهناك يخوض تجارب رمزية عميقة تهدم تصوره عن ذاته والحياة. يتعلم أن الهوية ليست ثابتة، بل هي "متعددة"، وأن أي محاولة لتقييدها ضمن هوية صارمة تعني فنائها.
"كل إنسان ليس واحدًا بل كثيرًا، وكل ذات تُختزل في صورة واحدة تفقد روحها."
"ذئب البوادي" ليست مجرد حكاية عادية، بل هي "تحليل نفسي مجسد بفن"، تعكس التأثير العميق الذي تركته تحليلات يونغ في نفس هِسّه، وتجسد فكرة "التحوّل عبر المعاناة" (Individuation). كتبها وكأنها جلسة علاج علاجية مفتوحة، وقد أفصح في مذكراته عن أنه سطرها "لينقذ نفسه من براثن الجنون".
لعبة الكريات الزجاجية (Das Glasperlenspiel, 1943): الحكيم المعزول ورحلة المصالحة مع الوجود
في رواية لعبة الكريات الزجاجية، التي تُعتبر قمة إبداعه الأدبي وآخر أعماله الكبرى (والتي نال من خلالها جائزة نوبل عام 1946)، يتجلى هِسّه في أوج نضجه الفكري، حيث ينأى بنفسه عن صخب المشاعر ويغوص في تأملات "الحكيم المتصوّف"، مما يعكس عمق رحلته الروحية وفلسفته الراقية.
الرواية تدور في مستقبل خيالي بمدينة "كاستاليا"، حيث ينشأ نظام صفوي قائم على النخبة الفكرية التي تكرّس حياتها للعلم والفن والتأمل. البطل، يوسف كنيشت، يصبح "سيد اللعبة"، وهي لعبة رمزية فلسفية تجمع بين الموسيقى والرياضيات والفكر المجرد.
لكن كنيشت يواجه أزمة تتشابه مع تلك التي مرّ بها هِسّه في شبابه: رفضه للسلطة الروحية حتى وإن كانت تتسم بالعقلانية. يترك منصبه ويتخذ قرارًا جريئًا بالاندماج في صميم الحياة الواقعية، حيث التعليم والفوضى ومصير الموت. ينتهي هِسّه من روايته بجملة تحمل في طياتها دلالات وصية عميقة:
الحكمة ليست مجرد ملاذ، بل هي رحلة للعودة إلى الذات… فطبيعة الإنسان تكمن في اكتماله بين الآخرين.
وهنا يتجلى صدى تجربة هِسّه مع المرض والعزلة، حيث تحولت معاناته إلى حكمة سامية، لا تنكر الألم بل تعيد تشكيله في قالب من المشاركة والاهتمام بالآخر.
وكمترجمة ومحبة لأدب هيرمان هيسه قمت بترجمة رواية مبكرة تسمىIn der alten Sonne “ تحت الشمس العتيقة”
تدور أحداثها حول أربعة من "أبناء الشمس" (Sonnenbrüder) – مشردين أو فقراء – يعيشون معًا في میتم تحوّل من نزل قديم يُسمّى "الشمس العتيقة" كتبت عام 1908 ونشرت لأول مرة عام 1914صدرت طبعات ألمانية عديدة (Suhrkamp، Fischer)، وترجمت إلى لغات مثل الفرنسية تحت عنوان "Les frères du
دراما إنسانية وجدانية تتناول مشاعر الانتماء، الوحدة، والشيخوخة بين طبقة من المترملين أقرب لأسلوب هيسه المبكر — سردي واقعي يمزج بين السخرية والحنان تجاه الشخصيات المهمّشة، الشمس العتيقة تمثّل ذكريات الشباب، الحيوية التي خبوها، والبحث عن غير ظاهر في ظل ظروفهم الراهنة
العزلة كقيمة لا كعقوبة
تجاوزت العزلة، في أدب هِسّه، كونها مجرد حالة قهرية بعد المرض، لتصبح رمزًا لولادة جديدة. لقد اعتقد أن الإنسان بحاجة إلى الانفراد بنفسه ليكتشف أعماق ذاته، لكنه لا يحقق الشفاء إلا عندما يعود مرة أخرى إلى نبض الحياة.
في رواية دميان: تُعتبر العزلة سعيًا نحو الهوية الحقيقية.
وفي ذئب البوادي: تُرى العزلة كتمرد على قيود العالم.
أما في سدهارتا: فهي تمثل عبورًا نحو الحكمة العميقة.
وفي لعبة الكريات الزجاجية: تصبح العزلة تمرينًا على الكونية، قبل أن يعود الفرد إلى جوهره الأرضي.
هذا التحوّل العميق في فهم العزلة جاء بفضل ما سمّاه هِسّه في مذكراته:
"الانهيار الذي أعاد لي روحي"
لقد كان معاناة المرض النفسي في حياته تجربة وجودية قاسية لا تُحتمل، لكنها، وبطريقة غامضة، paradoxically، كانت بمثابة منارة أنقذته من دوامة الضياع التام.
عند تأمل دور هيرمان هِسّه في الأدب الألماني، يتبين أنه تميز بشيء لم يمتلكه كتّاب جيله: عمق الصراحة الشعورية تجاه معاناته النفسية، وتحويلها إلى مشروع أدبي وفلسفي متكامل. لم يكن يكتب عن شخصيات تعاني من الأزمات، بل كان يعكس أزمته الخاصة، ويمنحها طابعًا رمزيًا شاملاً.
على عكس توماس مان الذي اعتبر المرض رمزًا للعبقرية، أو فرانز كافكا الذي كتب انطلاقًا من أعماق القلق الوجودي، استخدم هِسّه المرض كأداة تفكير عميقة، وساحة للتمرد التدريجي على الزمن والسلطة والمجتمع.
كان يرى في "العزلة النفسية القسرية" قضية تتجاوز مجرد التحليل السريري. بالنسبة له، كانت دعوة قَدَرية لاستكشاف الذات العليا، فكتب ذات مرة:
"من لا يعرف الانكسار لا يعرف نفسه. إننا لا ننمو حين ننتصر، بل حين ننكسر."
هذه العبارة تلخص رؤيته بأكملها، وتظهر كيف استطاع تحويل "المرض النفسي" من وصمة إلى شرارة تنبه الوعي.
رغم أن هِسّه بدأ فنيًا كشاعر ورسّام ومثقف تقليدي، فإن ما ميّز أدبه لاحقًا هو تحوّل الفن إلى وظيفة روحية. لم يعد الأدب عنده أداة للتزيين أو المجد الثقافي، بل وسيلة لإنقاذ الروح.
في مذكراته يكتب:
أكتب لأواجه التحديات... ليس لأنني أمتلك القوة، بل لأن الكتابة تمنحني بصيصًا من القوة المتبقية.
يتجلى هذا بوضوح في "دميان"، حيث تتجسد الكتابة كفعل استكشاف للذات؛ وفي "ذئب البوادي" حيث يتحدث البطل مع نفسه ليحول اليأس إلى أمل؛ وفي "لعبة الكريات الزجاجية" حيث تتحول الفكرة إلى مملكة بديلة تنقذنا من فوضى الحياة اليومية.
ستُرسخ هذه الرؤية فيما بعد ما يُعرف بـالكتابة العلاجيّة (Therapeutic Writing)، وهي فكرة كانت نادرة في زمن هيرمان هِسّه، لكنها أصبحت حجر الزاوية لفهم الكتابة النفسية المعاصرة.
لم يكن هِسّه يتبع الدين التقليدي، بل كان متصوفًا بفطرته، ومؤمنًا بأن جوهر الإنسان لا ينكشف إلا من خلال الصمت والتأمل والانفصال المؤقت عن صخب العالم.
يظهر تأثيره العميق بالديانات الشرقية، وخاصة البوذية والطاوية، بوضوح في روايته "سدهارتا"، حيث يقدم رحلة روحية لا تهدف إلى البحث عن إله خارجي، بل تسعى لاكتشاف النور الداخلي المتأصل في النفس.
في "لعبة الكريات الزجاجية"، تصبح "اللعبة" ذاتها طقسًا دينيًا حديثًا، لا يحتاج إلى معابد أو كهنة، بل يعتمد على منطق التأمل والبحث العقلي النقي.
وفي "ذئب البوادي"، يتحول "مسرح السحر" إلى رمز لمكان روحي يتجاوز قيود الزمان.
"السماء ليست فوقنا، بل داخلنا. وجحيمنا أيضًا يسكن أعماقنا."
هِسّه لا يهاجم الدين، بل يسعى لفك قداسته عن المؤسسات ويعيدها إلى جوهر الإنسان ذاته.
قبل أن تتضح مفاهيم الهوية المتعددة والانشطار الثقافي، كان هِسّه من الأوائل الذين تناولوا فكرة الذات الممزقة والمركبة. لم يتقبل فكرة "الأنا" الثابتة، بل آمن بوجود "الأنا" المتعددة، القابلة للتجزئة، والتي تعيش في تآلف مع التناقضات.
"أنا لست فردًا، بل ألوف… أنا حكيم ومهرّج، ناسك وراقص، طفل وشايب…"
تُعتبر هذه النظرة اليوم حجر الزاوية في دراسات الهوية المعاصرة، حيث تُظهر أن "الأزمة النفسية" لدى هِسّه ليست مجرد مرض، بل هي انعكاس لعمق الروح الإنسانية وتعقيد تكوينها.
لقد كان رائدًا في فكره؛ إذ تنبأ بعصر تتفكك فيه الهويات، ويصبح الإنسان مشروعا متغيرًا، لا ثابتًا.
رغم حصوله على جائزة نوبل في الأدب عام 1946، ظل هِسّه معزولًا، يكتب الرسائل ويزرع حديقته في "مونتانيولا" بسويسرا. لم يسافر لتسلم جائزته، ولم يدخل عالم الشهرة.
كتب إلى أحد أصدقائه:
"لا أفهم هذا الضجيج حولي... أنا فقط رجل نجى من روحه، وكتب ما رآه هناك."
في أواخر أيامه، أصبح رمزًا عالميًا، ليس فقط للكتّاب الروائيين، بل للمتمردين، وللمنفيين داخليًا، وللذين عاشوا غربة قاسية في أعماق أنفسهم.
النبي المنسي في زمن القلق
لقد جسد هيرمان هِسّه معاناة النفس المعاصرة بلغة موسيقية تأسر الألباب: حزينة، عميقة، ومضيئة في آن واحد. حول الألم إلى عمل فني باذخ، وجعل من المرض النفسي رسالة تحمل في طياتها أبعادًا وجودية عميقة.
وربما لم يكن فيلسوفًا ينتمي إلى الأكاديميات، لكنه كان بالتأكيد فيلسوف الأرواح المجروحة. حين نغوص في نصوصه، نشعر وكأننا نواجه أنفسنا في تلك المرايا التي كان يفرّ منها، ثم يعود إليها ليكتب أروع اعترافاته.
لم يشفِ هِسّه نفسه فحسب، بل فتح بابًا سريًا لكل من اعتقد أن السقوط هو نهاية المطاف.
"على كل إنسان أن يعيش لحظة من الجنون، لأن فيها وحدها يمكنه أن يرى الحقيقة بلا أقنعة."
هيرمان هِسّه لم يطرح نصائح تقليدية للكتابة كما فعل الكثير من الكتّاب اللاحقين، بل عبر عن رؤيته الأدبية وأسلوبه الفريد من خلال عددٍ من الرسائل واليوميات والمقابلات. وفيما يلي، أستعرض لكِ جوهر منهج هِسّه في الكتابة، مستلهمًا من تأملاته وتجربته الثرية.
أولًا: الكتابة فعل تأمّل واكتشاف للذات
"الكاتب لا يكتب كي يُعلّم الآخرين، بل كي يُنقذ نفسه."
كان هيرمان هِسّه يؤمن بأن الكتابة ليست مجرد أداة لإقناع الآخرين، بل هي رحلة عميقة نحو فهم الذات. ومن هنا، تأتي رواياته مفعمة بطابع تأملي داخلي، تعكس سيرة نفس تسعى بجد نحو البحث عن معنى وجودها.
ثانيًا: دع التجربة تُشكّل صوتك
"من لم يتألّم لا يستطيع أن يكتب بشرف."
كان يعتقد أن الكاتب لا يعبّر عن أفكاره من منظور نظري فحسب، بل يستمد إلهامه من تجاربه الحياتية، وخصوصًا تلك المؤلمة منها. ومن هنا، كانت رواياته مثل "دميان" و"سدهارتا" تنبض باضطراب داخلي عميق وتجارب وجودية غنية تُلامس أعماق الروح.
ثالثًا: لا تكتب لتُرضي الآخرين
في رسالة كتبها إلى أحد الشباب الذين طلبوا نصائح في الكتابة، قال:
"إذا كنت تسعى لكتابة نصٍ خالص، فلا تلتفت إلى كيفية استحسان الآخرين له، بل استشعر في أعماقك: هل عبرت عن الحقيقة؟"
رابعًا: اللغة البسيطة لا تعني الفكر البسيط
هيرمان هِسّه اعتمد أسلوبًا واضحًا وسلسًا، لكن خلف هذا الوضوح كانت تتجلى تساؤلات فلسفية غائرة. لم يكن يسعى إلى التعقيد، بل كان يؤمن أن الجمال يكمن في الصدق والبساطة.
خامسًا: الانعزال ضروري لخلق الكتابة الحقيقية
"لا يمكن لأحد أن يبدع إذا لم يكن على علاقة حميمة بالعزلة."
كان يحب الطبيعة ويفضل العيش في القرى أو المدن الصغيرة، بعيدًا عن ضجيج الحياة الحضرية. وكان يؤمن بأن الكتابة تحتاج إلى انسحاب مؤقت من صخب العالم، لا كنوع من الهروب، بل ليتمكن من رؤيته بوضوح أكثر.
سادسًا: اقرأ، لكن لا تتقمّص
هيرمان هِسّه كان قارئًا متعطشًا للمعرفة، ولكنه كان يحذر الكتّاب من أن تتحول القراءة إلى مجرد تقليد. كان يؤكد أن الكاتب المبدع هو من يستلهم من عمالقة الأدب، لكنه يبقي صوته فريدًا وعذبًا، حتى وإن كان في البداية خافتًا وهشًا.
سابعًا: الفن لا ينفصل عن الحياة
"الكتابة عندي ليست حرفة، إنها شكل من أشكال الحياة نفسها."
لذا، كان فهِسّه يؤمن اعتقادًا راسخًا بأن الكاتب لا يمكنه أن يبدع أي نصٍ يحمل الحقيقة، ما لم يكن قد اختبره بنفسه أو عاش تفاصيله، أو تأمل فيه خلال
لحظات من الصمت العميق والتفكر.
فلسفة هِسّه في الكتابة:
اكتب من قلبك لا من عقلك فقط.
اسمح للألم بأن يُنضجك لا أن يُدمّرك.
لا تبحث عن الإعجاب، بل عن الحقيقة.
لا تخف من الوحدة.
كن صادقًا مع نفسك، ثم مع كلماتك.