كيف حاولت المرأة العجوز شراء الحبر؟
في شارع كوسوبوكايا، تحديدًا في البيت رقم 17، كانت تعيش امرأة مسنّة، رفقة زوجها وابنها. لكن مع مرور الزمن، كبر الابن ورحل عن الديار، وتوفي الزوج، فترك ذلك المرأة العجوز أسيرة الوحدة، تنأى بنفسها عن صخب العالم الخارجي. عاشت حياتها في سكينة وسلام، تذوقت طعم العزلة، ترسل رسائل إلى ابنها، ولم تفعل شيئًا أكثر من ذلك.
كان الناس يتناقلون أن المرأة العجوز قد سقطت من أعالي القمر.
وكانت العجوز تخرج للحديقة وتقول :
- أوه أيها الأب ، أين رحل الثلج ؟
أما بالنسبة للجيران، فهم يضحكون ويصرخون: "هل يسقط الثلج في الصيف؟ هل أنت الجدة التي سقطت من القمر أم ماذا؟"
أو تذهب المرأة العجوز إلى متجر الكيروسين والغاز وتسأل :
" أليس لديك لفافات فرنسية ؟
ضحك العامل وقال: "من أين جئتِ، أيتها السيدة؟ كيف يمكننا الحصول على اللفافات الفرنسية بحق السماء؟ هل أنتِ نفس السيدة التي سقطت من القمر؟" وبالفعل، كانت هي المرأة العجوز نفسها.
في أحد الأيام البهية، حيث كانت الشمس تُشرق في سماء صافية خالية من السحب، وعلى طول شارع كوروسوبوكا، انطلقت سُحُب من الغبار، فأقبل المكنسيون برشّ الماء عليه مباشرة. ارتفعت غمامة من الغبار في الأفق، بينما كانت الخيول تخطو بخفة فوق برك الماء المتلألئة. ومع هبوب الرياح، أصبحت الأجواء نقية وخالية من الشوائب.
من باب البيت رقم 17 ، خرجت المرأة عجوز ، ممسكة بيدها مظلة ، وقلم برأس جميل وعلى رأسها قبعة مزينة بدانتيل أسود .
" هيييي أخبرني " صاحت وهي تسأل العامل ، " أين يباع الحبر ؟ "
" ماذا ! " صرخ العامل ، " الحبر الحبر " صاحت
"ابتعدي عن المكان يا عجوز، فنحن نقوم بسكب الماء هنا" صرخ العامل.
توجهت المرأة العجوز نحو اليمين، ثم وصل الماء إلى الجهة اليمنى. بعد ذلك، ذهبت إلى اليسار، وجاء الماء من الجهة اليسرى.
" هل سَقَطَت من القمر؟ ، أنت ترين أني أسكب الماء على الشارع !"
لوَّحت المرأة العجوز بمظلتها ثم انطلقت. وصلت إلى السوق، حيث رأت رجلاً يبيع السمك، وكان السمك كبيراً وكثيراً وممتلئاً. كان الرجل ذو يديْن طويلتيْن وقدميْن عريضتيْن. كان يرمي السمك في يديه، ويستخدم يده الأخرى لانتشال أنفه، يهزّه ولكنّه لا يسقط. ثم يمسك السمكة من ذيلها بيديه ويرسلها برشاقة نحو المرأة المسنّة. وقال: "اشتريها بروبيه فقط".
" لا " قالت المرأة العجوز " أحتاج حبر "
الرجل لم يدعها تكمل ، " خذيها ، أنها رخيصة "
" لا " " أحتاج حبر " من جديد قال الرجل " خذي ،خمسة باوندات ونصف من السمك " ثم حملها بيده الأخرى ،
" لا ، أحتاج إلى حبر "
في نهاية الأمر سمع الرجل ما تقول المرأة له
" الحبر ؟ "
" نعم الحبر "
" حبر ؟ "
" هل تحتاجين إلى سمك ؟ "
" لا "
" إذاً الحبر ؟ "
" نعم "
" لماذا ، هل سقطتي من القمر ؟ " سأل الصبي
قالت المرأة العجوز بحدّة: "إذاً ليس لديك حبر"، ثم غادرت
-هل تحتاجين إلى اللحم؟ صرخ الجزار إلى المرأة العجوز.
- هل لديك حبر ؟ سألت المرأة العجوز
"الحبر؟" تساءل الجزار بينما كان يسحب جثة خنزير من قدمه. ابتعدت المرأة العجوز عن الجزار بسبب بشاعة المشهد المؤلم.
صرخ التاجر:
" تعالي هنا ، تعالي هنا "
عندما وصلت المرأة العجوز، لاحظت الكؤوس والأطباق مُعدّة وجاهزة. فكرت في الحبر، ثم قدّم لها علبة من الأجاص المجفف، وقال: "من فضلك، تناولي هذا، فلن تجدي هذا الأجاص في أي مكان هنا."
دون أن تعيره أدنى اهتمام أمسكت المرأة علبة التوت ، ثم أعادتها " أحتاج حبر ، وليس أجاص " قالت العجوز
" أي حبر ، أسود أو أحمر ؟ " قال التاجر
" الحبر الأسود " قالت المرأة العجوز
" ليس هناك أسود " قال التاجر
" حسنا ، الأحمر إذاً " قالت المرأة العجوز
" وليس هناك أحمر أيضاً " قال التاجر ، لوت العجوز شفتيها ، " وداعًا " قالتها وغادرت
انتهى مسار السوق، ولم يبقَ منه أثرٌ للحبر. خرجت المرأة العجوز من بين زحام المتاجر، وسارت في شارعٍ غير معروف. وفجأة، ظهر من جانبها خمسة عشر حمارًا يسيرون بخطواتٍ متثاقلة، وفي المقدمة واحدٌ منهم يحمل رايةً ضخمة. وعلى ظهور الحمير الأخرى، جلست مجموعة من الناس، يتأبطون يافطاتٍ كبيرة بأيديهم.
" ما هذا "، فكرت المرأة " لا بد أنهم يستخدمون الحمير الآن كما يستخدمون الترام"
" أنت! " نادت على الرجل في المقدمة ،" قل لي أين يباع الحبر ؟ "
لم ينتبه الرجل لكلام المرأة، وكان من الواضح أنها كانت تسأله، لكنه أبقى غليونه في فمه، حيث كان رفيعًا في نهايته وسمينًا من الجهة الأخرى. وعندما وضعت النهاية الرفيعة في فمه، صرخ في وجه المرأة بصوت مرتفع جدًا:
"
أسرعوا لرؤية برج دورفور !
في سيرك المدينة، في سيرك المدينة !
لرؤية الأسود المفضلة لدى الجميع !
إنه الأسبوع الأخير !
التذاكر عند المدخل !"
أفلتت المرأة العجوز مظلتها في حالة من الارتباك والفزع، فرفعتها مرة أخرى ولكن يديها ظلّت ترتعش في خوف. سقطت المظلة مجددًا، ومع ذلك، استجمعت قواها ورفعتها مرة أخرى، لتندفع من شارع إلى آخر، وسط زحام الفوضى والضجيج. كانت خطواتها تتسارع بين المارة، بينما السيارات وعربات الترام تجري مسرعة كأنها تتسابق في سباق الحياة. أرادت المرأة العجوز عبور الشارع نحو الجهة الأخرى، وفجأة... :
"ترررااااا تراااا " صرخ الجميع
السيارة تجنبت السيارة الرجل العجوز وصرخ أحدهم " هيييي ، انتبهي "
هرعت المرأة العجوز إلى الجانب الآخر من الشارع وحتى الطريق المتوسط ، وفجأة
" جين جين ، دينق دينق دنق دنق " الترام مسرعًا
المرأة العجوز كانت تتحرك إلى الأمام وإلى الخلف
" بير بير بير بير " الدراجة زمرت
ظلت المرأة العجوز خائفة، لكن الرجل كان لطيفاً، أمسك بيدها وقال:" من أين أتيت ؟ وكأنك سقطتي من القمر ! من الممكن أن تدهسي "
سحبت المرأة العجوز يدها ببطء وولّت وجهها نحو الجهة الأخرى. أخذت نفسًا عميقًا، وفي قلبها رغبة قوية في استفسار الرجل عن موقع الحبر، لكنها حين نظرت حولها، اكتشفت أن الرجل قد انسل بعيدًا.
واصلت المرأة العجوز سيرها، ثم توقفت تحت المظلة لتستريح، وسألت المارة عن الحبر.
رجل عجوز يتوكأ على عصاه اقترب من المرأة العجوز، كانت تبدو باهتة وشاحبة. تقدمت إليه وسألته بصوت مليء بالحكمة: "لا شك أنك رجل عاقل، هل تملك فكرة عن مكان بيع الحبر؟"
توقف الرجل العجوز ورفع رأسه قليلاً، ثم فكر في الأمر لبعض الوقت. أدخل يده في جيبه وأخرج سيجارة ومثبت بلاستيكي، وضع السيجارة في المثبت. ثم أخرج عود الثقاب وأشعل السيجارة، وبعد ذلك أعاد عود الثقاب إلى جيبه، وبدأ يحرك فمه الذي يفتقر إلى الأسنان.
- شيشيشي يستأجرون في ميقاشيش .
لم تستوعب المرأة العجوز ما قال، بينما استمر الرجل العجوز في سيره.
تساءلت العجوز في نفسها: كيف يمكن أن لا يكون لدى أحد أدنى فكرة عن الحبر؟ هل لم يسمعوا أبداً عن الحبر، أم ماذا؟
قررت المرأة العجوز الذهاب إلى المتجر للاستفسار عن الحبر، إذ من المحتمل أن يعرفوا شيئًا ما هناك.
وصلت المرأة إلى متجرٍ يتميز بنوافذه الكبيرة، حيث كانت تُعرض فيه مجموعة من الكتب.
تأملت المرأة العجوز قائلة: "ها هنا، سأدخل إلى هذا المكان". "من المؤكد أن الحبر موجود هنا، لأن الكتب تُكتب بالحبر".
توجهت نحو الباب، وكان الباب الزجاجي يبدو غريبًا. دفعت المرأة العجوز الباب فشعرت بشيء يضغط عليها من الخلف. وعندما نظرت، اكتشفت وجود باب آخر خلفها، بينما كان الباب الأمامي أمامها.
فجأة، ازدادت الأبواب، وبدأت هي والعالم يدوران، يتحركان بلا هدف معروف. خلف كل باب يوجد باب آخر، وكلها تدور في دوامة. خرجت المرأة العجوز وما زالت حية.
نظرت المرأة إلى ساعة كبيرة وسُلَّم يؤدي إلى الأعلى، وكان هناك رجل يقف بجانب الساعة. اقتربت المرأة العجوز منه وقالت:" أين يمكنني العثور على الحبر ؟ "
لم يلتفت برأسه نحوها، بل أشار بيديه إلى باب صغير مزود بمشبك. عندما فتحت المرأة العجوز الباب قليلاً ودخلت، وجدت غرفة صغيرة لا تزيد مساحتها عن خزانة، وداخلها كان هناك إنسان. وحينما أرادت أن تسأل عن الحبر، حدث شيء مفاجئ. : " جن ، دزيييننننن "
بدأت الأرض ترتفع، بينما وقفت المرأة العجوز مكانها دون أن تجرؤ على التحرك، وكأن حجرًا يزداد ثقلًا في صدرها، مما جعلها تعاني من ضيق في التنفس. وفجأة، أصبح التنفس أسهل وتوقف الصوت، ثم سمع صوت فتح الباب.
" تعالي تعالي ، الطابق السادس ، لا يوجد مكان آخر يمكنك الذهاب إليه. "كالحلم، كانت المرأة العجوز في مكان مرتفع، بينما أغلق الباب خلفها، وعادت الغرفة الصغيرة إلى الأسفل مرة أخرى.
كانت المرأة العجوز واقفة، ممسكة بالمظلة في يديها، لكنها لم تكن قادرة على استعادة أنفاسها. وقفت على الدرج بينما كان الناس يمرون من حولها، يغلقون الأبواب بقوة، وهي لا تزال ممسكة بالمظلة. توجهت المرأة العجوز بنظرها حولها حتى وصلت إلى باب ما، وفتحت الباب لتدخل إلى غرفة واسعة ومشرقة. في الداخل، كانت هناك طاولات ممتلئة بأشخاص، منهم من يدس أنفه في الأوراق ومنهم من يكتب، وبعضهم الآخر يكتب على الآلة الكاتبة. كان المكان يعج بالضجيج كما لو أنك في ورشة للحدادة.
على اليمين توجد أريكة ملتصقة بالحائط، يجلس عليها رجل سمين ورجل نحيل. الرجل السمين يتحدث بينما يفرك يديه، في حين أن الرجل النحيل ينحني لينظر إليه من خلال نظارات بلا إطار وهو يقوم بربط حذائه.
"نعم"، رد الرجل البدين، "لقد كتبت حكاية عن فتى ابتلعه ضفدع، إنها قصة مشوقة للغاية."
"لكنني لا أستطيع أن أجد موضوعًا أكتب عنه" قال الرجل النحيل وهو يدخل الرباط بفتحة أخرى. "لكن قصتي شيقة للغاية" أضاف الرجل السمين."ذهب الطفل إلى المنزل، فسأله والده عن مكانه، فأجابه الضفدع من داخله بكلمة "كوا كوا". وفي المدرسة، استفسر المعلم من الطفل عن كيفية قول "صباح الخير" بالألمانية، فرد الضفدع مرة أخرى بكلمة "كوا كوا"، مما جعل المعلم يلعن الضفدع. "إنها قصة طريفة" قال الرجل السمين وهو يمسح على رأسه.
"هل قمتِ بكتابة أي شيء؟" سأل المرأة العجوز.
"لا" قالت المرأة العجوز ، "لقد نفد الحبر مني، أنا أكتب لابني."
"هل ابنك كاتب أيضاً؟" تساءل الرجل السمين.
" لا " قالت المرأة العجوز، " أنه حارس غابة، وهو لا يعيش هنا "" كنت آخذ الحبر من زوجي ، لكن زوجي الآن قد مات ، وتركتني وحدي "" هل أستطيع شراء الحبر من هنا ؟ " قالت المرأة العجوز فجأة
الرجل النحيل ربط حذاءه، ثم نظر من خلال نظاراته إلى المرأة العجوز." حبر ؟ "كان متفاجئ
" أي حبر ؟ "
" الحبر الذي يكتبون به " شرحت المرأة
" ماذا ؟ إنهم لا يبيعون الحبر هنا " قال الرجل السمين وأوقف فرك يديه .
" كيف دخلت هنا ؟ "سأل الرجل النحيل ووقف من على الأريكة
" من خلال الخزانة " قالت المرأة العجوز
-في أي خزانة ؟ قال الرجلان بصوت واحد
"الخزانة التي تصعد بها إلى الأعلى أو إلى الأسفل " قالت المرأة
"آه ، في المصعد " ضحك الرجل النحيل ، وجلس على الأريكة من جديد ليربط الحذاء الآخر .
" ولماذا جئت إلى هنا ؟ " سأل الرجل السمين
" لأني لا أستطيع أن أجد الحبر في أي مكان " " سألت الجميع ، لا أحد يعرف ، نظرت ووجدت الكتب في كل مكان ، لذا خمنت أن أعثر عليه هنا "
" ها ها ها " ضحك الرجل السمين " أنت مثل من سقط من على القمر "
" اسمع " قال الرجل النحيل ، قفز فجأة
" اسمع " قال للرجل السمين ، " سأكتب عن امرأة تشتري الحبر "
" هذا صحيح " قال الرجل السمين ، وفرك يديه
الرجل النحيل خلع نظاراته، نفخ عليها ثم مسحها بمحرمة، وضعها على أنفه ثم قال للمرأة العجوز :
أخبرينا كيف حصلت على الحبر؟ سنتحدث عنك، ونكتب كتاباً ونقوم بطباعته.
المرأة العجوز فكرت ثم وافقت .
لذلك كتب الرجل النحيل أن كتابًا حول المرأة العجوز التي حاولت شراء الحبر .