الخياطة*
انطلقت الأحداث في صباح مشمس، عندما اندفع السيد ب، وهو يحاول التخلص من غطاء سريره، متجهاً كعادته نحو الحمام. لقد عانى منذ فترة قريبة من نوم متقطع، وبدت ليلته مثل عقد زوجته الراحلة، متناثر في كل مكان كما لو كانت ذكرياتها قد تفرقت. انفصل الخيط الممزق، مما أتاح للؤلؤ الباهت أن يتناثر على الأرض مثل نجوم مفقودة في ظلام دامس. عجز السيد ب. عن استعادة معظمها، وفي ليالي الأرق، كان يتساءل مرارًا عن مكانها، إذ قادهم مصيرهم إلى دوامة من الفراغ الفكري، حيث تشكلت غيوم من الغبار، وكانت الشقوق في الأرض بمثابة ملاذ لهم.
في ذاك الصباح، وأثناء جلوسه على وعاء المرحاض، لفت انتباهه أنهما كانتا متقاطعتين عند منتصفهما. كانت تلك الجوارب مصنوعة بمهارة، متموجة بخيوط محبوكة، مصنوعة بلمسة من الأناقة مع حواف مرنة تحيط بأصابع قدميه. تفاصيل بسيطة لكنها أثارت فضوله. يبدو أنه كان مشغول الذهن بوضعها، إذ لم ينتبه إلى تلك الخيوط: الجوارب مُطرزة بشكل متكامل، ممتدة من أطراف أصابع قدميه إلى الشريط المرن الذي يلتف حول باطن قدمه. انتهى للتو من طقوس الاستحمام، واندفع نحو الخزانة كالسهم، حيث كان في الدرج السفلي، تتجمع بدفء وعمق، جواربه التي تتلون بتدرجات الرمادي والأسود. انتقى واحدة بشكل عشوائي، كأنها نجمة وحيدة في سماء حالكة، ليطيل النظر إليها بفضول. ولكن نظرًا لأن بصره وقع على امرأة ذات بشرة داكنة، وفي ظل الغرفة المظلم، لم يستطع أن يلحظ الكثير من التفاصيل. كان عليه أن يعود إلى غرفته ليستعيد نظارته، وعندئذٍ أدرك أن هذه المرأة السوداء شماعة برداء أسود خاص. ثم استخرج السيد ب جميع جواربه، محاولًا تنظيمها في أزواج، حيث كان لكل جورب درب خياطة يمتد من أصابع القدم حتى الحافة المرنة. وكأن الخياطة قد تجذرت في نسيج الجورب، مما جعلها عنصرًا أساسيًا لا يمكن فصله عن جوهر الجورب نفسه.
في البداية، شعر بالغضب دون أن يتأكد ما إذا كانت المشكلة تتعلق به شخصيًا أو بالجوارب. لم يكن يدرك أن هناك نوعًا من الجوارب تمتاز بطبقة تمتد على طول الساق! كان يعرف أن الجوارب تأتي بعرض موحد، عند مستوى الأظافر، ولكن بخلاف ذلك، كانت ناعمة وسلسة. اختار اللون الأسود، ورغم أنه كان يبدو غريبًا، إلا أنه رفضه بشدة عندما جرب الآخرين، حتى أصبح يشعر بالملل. وللحظة قصيرة، انتابه شعور بأنه يفتقد القدرة على التنفس.لم يسبق لأحد أن انتبه إلى وجود مثل هذا الدرب المطرز على الجوارب. كيف يمكن أن يكون ذلك ممكناً؟
اختار أن يتخلص من كل شيء. مؤخرا، كان يجمع بعناية كل ما يثقل كاهل ذاكرته في زوايا علية عقله، وقرر ألا يعود إلى تلك الذكريات المؤلمة. لذا بدأ يمارس طقوس شاي الصباح المتقنة، حيث أضاف لمسته الخاصة من الأعشاب الطبية المفيدة للبروستاتا. وقد تمت تصفية تلك الأعشاب مرتين لتكون أكثر نقاءً وصفاءً. بينما كانت تتدفق عبر المصفاة، قام السيد ب. بتقطيع شريحتين صغيرتين من خبزه وزبدته. لكن اتضح أن مربى الفراولة الذي أعده قد تعرض للعفن؛ فقد كانت عيون العفن الرمادية الزرقاء تحدق فيه من داخل الوعاء، بجرأة وغطرسة. لذا، اكتفى بتناول الخبز المحمص مع الزبدة فقط.
عاد إلى ذهنه مجددًا موضوع الخياطة، لكنه نظر إليه كأنه شر لا مفر منه، مثل صنبور يقطر بلا توقف، أو خزانة تصدر صريرًا مرهقًا، أو سحاب ضيق لا يتيح له الراحة. كانت مواجهة مثل هذه الأمور تفوق طاقته. وبعد تناول الإفطار، قام بتحديد ما سيتابعه من البرامج التلفزيونية في ذلك اليوم، كأنه يخطط لمعركة ضد الوقت. حاول ملء أيامه بالنشاطات، مُكرسًا لنفسه فقط بضع ساعات وفيره لطهي غدائه وللتسوق، كمن يسرق لحظات من الهدوء في خضم الفوضى. فضلا عن ذلك، لم يكن قادرًا أبدًا على الالتزام بمواعيد التلفزيون المحددة. غفى على كرسيه ليصحو فجأة، مشوشًا، وقد فقد إحساسه بالزمن، ثم بدأ في محاولة استنباط الوقت من اليوم اعتمادًا على البرامج التي بثت.
في المتجر الذي أتم فيه مشترياته، كانت هناك مديرة تُدعى ميمي، امرأة طويلة ذات رونق خاص، بشرتها ناعمة كالحرير، وحواجبها بارزة كأنها خطوط فنية. كانت نحيفة كخيط رفيع، تنبض بالحياة. حينما وضع في سلتها الخبز وصندوق الفطيرة، دفعه شعور غريب لطلب المزيد، فقد خطر بباله فكرة الجوارب. فقالت المديرة بحكمة: «اختر تلك التي لا تضغط».
سلمته زوجًا من الجوارب مغلفة بعناية في السيلوفان. وقد تملكه الإحراج بينما كان يحاول رؤية شيء من خلالها. لكن المديرة أعادت إليه العبوة ليفك الغلاف. ثم وضعت فورًا الجورب على يدها الأنيقة، التي كانت تتزين بأظافر زائفة، لتظهره أمام عيني السيد ب.
"تأمل، فلا وجود لأي مطاط يعيق حركتك أو يضغط على ساقك، بل يسري الدم في عروقك بسلاسة ورشاقة. في سنك." لم يحط القرار رحاله بعد، وقد ارتأى بوضوح أنه من غير اللائق استحضار عمر الزبون.
انحنى السيد ب. نحو كفها، وكأنه يدبر ليتوجها بقبلة حالمة في ذلك المكان.
هل أستطيع العثور على جوارب بلا خياطة في نهايتها؟
سأل بطريقة تبدو وكأنها غير مبالية، بينما كان يتوجه نحو التسوق.
- كيف يمكن حدوث ذلك من دون خياطة؟ تساءلت المديرة بدهشة. هذه فكرة عجيبة ! سيكون من المستحيل القيام بذلك. كيف يمكنهم الصمود ؟
لذا، اتخذ قرارًا نهائيًا بالتخلي عن قضيته في مسيرته الفردية. مع مرور الأيام وحنين الذكريات، يغدو من الصعب علينا ملاحظة العديد من الأمور، في الوقت الذي يواصل فيه العالم حركته الدؤوبة، حيث يبتكر الناس اختراعات جديدة ويصوغون تحسينات متتالية. لم يكن السيد ب. مدركًا متى بدأت الجوارب تأخذ شكلًا مختلفًا عما كانت عليه سابقًا. يا للأسف!قد يكون هذا هو الحال منذ زمنٍ بعيد. من العسير إدراك كل التفاصيل، فقد سارع بخطواته نحو منزله محاطًا بشعور من التعزية. كانت حقيبته ذات العجلات تجر خلفه فرحًا مكتظًا، بينما كانت الشمس تتألق في كبد السماء. جارتُه في الطابق السفلي كانت مشغولةً بغسل نوافذها، مما ذكره بأنه كان ينبغي له أن يطلب منها توصية لشخصٍ يتولى هذا الأمر. في تلك اللحظة، رأى نوافذه، كانوا باللون الرمادي، كأنهم امتداد للستائر المتدلية. كان بإمكان المرء أن يعتقد أن صاحب المنزل قد غادر هذه الحياة منذ زمن بعيد. لكن تلك الفكرة السخيفة لم تستقر في ذهنه طويلاً قبل أن يرضخ ويتفق على الحديث مع الجارة.
في ظهيرة دافئة، تسلل إليه شعور من القلق ينبئه بضرورة القيام بشيء ما. وضع حقيبته في المطبخ، ثم توجه بسرعة إلى غرفة زوجته التي كان قد يغطّ فيها بنوم قلق؛ فقد جعل من غرفته الأخرى ملاذًا لتخزين البرامج التلفزيونية القديمة والصناديق وجرار الزبادي، بالإضافة إلى مجموعة من الأشياء المتعددة التي لا زالت تحتفظ بصلاحية الاستخدام.
تأمل هذا الجزء الداخلي الرقيق، الذي احتفظ بلمسة أنثوية، حيث جُسدت فيه كل تفاصيل الحياة كما يجب أن تكون: كانت الستائر مسدلة، يغمره ظلام هادئ، بينما كانت الملاءات مرتبة بعناية، وكأن السيد ب نام ،قد استقر دون حراك. أضفت لمسة من المصداقية الصغيرة جمالية تألق أكواب مزينة بحواف ذهبية وكوبالت، إلى جانب ثريات كريستالية ومقياس عُثر عليه على ضفاف البحر. نُقش بدقة على موقع الحدث: كرينيكا مورسكا. وُضِع مقياس ضغط الدم الخاص بالسيد ب على طاولة السرير، وكأنه يراقب نبض الحياة. أمام السرير، كانت خزانة الملابس الضخمة تروي قصة غياب زوجته، حيث احتفظت بمحتوياتها في ذاكرة مؤلمة، لكنه نادرًا ما اقترب منها، مترددًا في مواجهة الذكريات منذ رحيلها. لا تزال ملابسها معلقة هناك، شاهدة على وعده المتكرر بالتخلي عنها، وعدٍ يتلاشى مع كل يوم يمر. ولكنه لم يحقق النجاح بعد. خطرت له فكرة جريئة تتراقص في ذهنه. ماذا لو عرضهم على جارتهم التي تسكن في الطابق السفلي؟ ففي بعض الأحيان، كان يشاركها بأحاديثه حول نوافذها المتألقة التي تتلألأ كأنها نجوم في سماء صافية.
لتناول وجبة الغداء، حضّر علبة من حساء الهليون الذي كان لذيذًا حقًا. كطبق جانبي، استمتع ببطاطس جديدة، بينما حضر البطاطس القديمة وإعادة تسخينها في المقلاة، في سعيه المتواصل نحو التوفير. وبعد قيلولة طبيعية تلت تلك الوجبة الشهية،توجه السيد ب. إلى عزلته، حيث انغمس في عمل شاق استمر لساعتين. في هذا الجهد المضني، أطلق العنان لترتيبه، مُنظماً جميع البرامج التلفزيونية القديمة التي أودعها في تلك الغرفة، واحدة تلو الأخرى، أسبوعاً بعد أسبوع، على مدار خمسين عاماً ونسخاً عديدة. وهكذا، تشكلت أمامه نحو أربعمائة عنوان، مكدسة في أكوام غير متساوية ومغلفة بالغبار، كأنها ذكريات من زمن مضى. كان التخلص منهم بمثابة طقوس تطهير رمزية، حيث كان السيد ب. يتطلع إلى أن يُعلن بداية عام جديد في الربيع، وليس في تاريخ مزيف على التقويم. كان يأمل في أن يشرع في عملية تنقية مشابهة لحمام الطقوس. استطاع أن ينقل جميع الأرقام إلى غرفة القمامة، ليُلقي بها في الصندوق الأصفر المزين بكلمة «ورق»، لكنه انتابته موجة من الذعر في تلك اللحظة.ألم يكن هناك جزء من حياته قد تلاشى، قطع من الزمن والماضي. ارتفع على أطراف أصابعه، كأنه يقاوم اليأس، ليبحث وسط حاويات القمامة عن كلماته التي يبحث عنها أسبوعيًا. لقد غابوا في ذلك المخبأ المظلم! وعندما صعد الدرج إلى الطابق العلوي، انهمرت دموعه لحظات، إذ شعر بالحرج والأسى، مما يدل على أن توتره قد بلغ ذروته.
في صباح اليوم الذي تلاه، حينما استقر في عادته للإشادة بالبرامج التي تستحق المتابعة، أثار قلمه استياءه. كان اللون المتبقي على القلم بنيًا، وبدت قبيحة للغاية! في البداية، اعتقد أن العيب في الورق؛ لذا لجأ إلى أوراق أخرى ليرسم دوائر صغيرة بغضب على الهامش، لكنها كانت بالدرجة نفسها من البنية! توصل في نهاية الأمر إلى استنتاج مفاده أن حبر القلم قد تلاشى لونه إما بسبب الشيخوخة أو لسبب آخر غامض. في لحظة من الغضب نتيجة اضطراره للاحتجاب عن طقوسه المحببة بحثًا عن أدوات الكتابة، انطلق نحو مكان حيث تتلألأ مصادفة أجمل، حيث جنّد وزوجته أقلامًا على مدى العمر. كانت هناك وفرة من هذه الأقلام، ولكن للأسف، لم يكن معظمها صالحًا للاستعمال، إما أن جف فيها الحبر أو انسد تدفقه. تجول للحظة بين هذا الفيض الكبير، وأخذ مقبضين من بين تلك الأقلام، عائدًا إلى مذكراته، واثقًا بأنه سيعثر على قلم واحد على الأقل ينساب منه الحبر بسلاسة، سواء كان باللون الأزرق أو الأسود أو حتى الأحمر أو الأخضر في أسوأ الأحوال. لم يكتب أي قلم ! لقد خلفوا جميعًا وراءهم أثرًا يشبه الأوزة القذرة التي تثير الاشمئزاز، أو لون الأوراق الذابلة الذي ينذر باليأس، أو شمع الباركيه الذي يشبه خيوط العنكبوت، أو الصدأ المبلل الذي يتسبب في شعور بالغثيان.جلس الرجل العجوز بلا حراك، كأن الزمن قد توقف حوله، ولم تكن ترتجف سوى يديه اللتين عانتا من قسوة الأيام. فجأة، انطلق كالسهم نحو خزانة الحائط، حيث كانت أوراقه محفوظة ككنوز في كهف مهجور؛ أمسك بالرسالة الأولى التي وصلته، لكن سرعان ما أعادها إلى مكانها، كما فعل مع كل الرسائل الأخرى - من فواتير وتذكيرات وبيانات. لكن في الخلفية، عثر على مظروف مكتوب بخط اليد، ورغم ذلك، لم يكن بإمكانه تجاهل أن لون الحبر هناك كان بنيًا، مما أثار في قلبه شعورًا بالاستسلام.
استقر على كرسيه المفضل، وهو يتحلى بالهدوء التام، ممددًا ساقيه دون أي حركة تذكر، فقط يلتقط أنفاسه ويحدق في نقاء السقف الذي لا يعبأ به. في تلك اللحظة، بدأت أفكار وأنماط مختلفة تتدافع في ذهنه، قبل أن يتخلى عنها واحدة تلو الأخرى.
المادة الموجودة في الحبر قد تفقد لونها مع مرور الزمن وتتحول إلى اللون البني.
عنصر يتواجد في الهواء، وهو مادة ضارة، قد يؤثر في لون الحبر ويغيره بشكل ملحوظ.
أو، أخيرًا،بسبب حدوث تغييرات في البقعة الصفراء في عينه، أو نتيجة إصابته بإعتام عدسة العين، أصبح لديه إدراك مختلف للألوان.
على الرغم من ذلك، بقي السقف متلألئًا باللون الأبيض. وقف الرجل العجوز ب. مجددًا، مستأنفًا توجيه برامجه دون أن تساوره أدنى فكرة عن لون القلم. في عالم البث، ستظهر ألغاز الحرب العالمية الثانية، لكن سيكون هناك أيضًا فيلم يتناول عالم النحل. وفي أيام مضت، كان يحلم أن يكون لديها خلايا نحل خاصة به.
ثم ظهرت الطوابع كنجوم لامعة في سماء يومه. في أحد الأيام، حين استخرج السيد ب بريده من صندوق البريد، تجمد في مكانه. كانت جميع الطوابع مستديرة، مزينة بأسنانها، متألقة بألوان زاهية، بحجم غرفة زلوتي. شعر باندفاع الدم إلى رأسه، وكأن قلبه يضخ الحماس في عروقه. دون أن يعبأ بآلام ركبته، صعد الدرج بخطوات حماسية، وفتح بابه، وحتى دون أن يخلع حذاءه، اندفع في شغف نحو ما ينتظره.اندفع نحو الخزائن حيث كان يحتفظ بكنز رسائله. شعور بالدوار اجتازه عندما لمح أن جميع الطوابع كانت بالشكل المستدير على كل الأظرف، حتى تلك العتيقة التي تحمل عبق الزمن.
جلس على كرسيه، مستعيدًا ذكرياته في محاولة لاسترجاع الصورة النموذجية للطوابع. لكن، لماذا تبدو تلك الطوابع المستديرة سخيفة للغاية بالنسبة له؟ أكان السبب في أنه لم يكن يولي اهتمامًا للطوابع من قبل؟ تلاعبت أفكاره بين طعم الغراء، ونعومة اللسان، وقطعة الورق التي التصقت بأصابعه على الظرف... في الأزمنة الغابرة، كانت الرسائل تأتي بحجمٍ ضخم، مترفة. كانت تغمرها ألوان الأزرق العميق، ونمرر ألسنتنا على الحواف لتلتصق ببعضها البعض، ثم نشدها بقوة حتى تتآلف الأجزاء بتناغمٍ مثالي. قلب الظرف، ورأي... نعم، كان الطابع مربعًا، بلا أدنى شك. أما الآن، فقد أصبح دائريًا! كيف يمكن أن يحدث ذلك؟احتضن وجهه بين يديه، فغمره لحظة في الفضاء الهادئ الذي يُنسَج دائمًا عند حافة الجفون. ثم، بعد تلك اللحظة الساكنة، توجه إلى المطبخ ليضع أغراض البقالة في أماكنها.
استقبلت الجارة الهدية بشيء من التردد والحذر. تأملت الصناديق والسترات المرتبة بعناية داخل الصندوق الكبير، وقد تسلل الشك إلى قلبها. ومع ذلك، لم تستطع إخفاء لمعة الحسد التي تلألأت في عينيها عندما رأت الكآبة التي انكسرت في عيني السيد ب وهو يقف عند الباب.
عندما اجتمعوا حول الطاولة لتذوق شريحة من الكعكة مع فنجان من الشاي، استجمع الرجل العجوز شجاعته بكلتا يديه:
بدأ همس "ستاسيا" بصوت خافت للغاية، كأنه يختبئ بين همسات الرياح.
تأملت الجارة فيه بينما كان يوجه إليها أسئلته. تغلغلت عيناها البنيتان اللامعتان في دوامة من التجاعيد.
"ستاسيا، يبدو أن هناك أمرًا غير صحيح. حدثيني، هل تحتوي الجوارب على طبقات، تمتد عبر طولها بأكمله؟"
تفاجأت من هذا السؤال، تراجعت قليلاً على كرسيها، ثم أجابت بعد فترة من الصمت:
«عن أي حديث تتحدث هنا، سيدي؟ وماذا عن تلك الحمالات؟ بالطبع، إنها موجودة!»
- وكانت دائما موجودة؟
- هل تفكر في ما تقوله "دائمًا"؟ بالتأكيد، دائمًا
أزاح الجار الفتات من على الطاولة بحركة عصبية بعض الشيء، ثم عمل على تصحيح وضع مفرش المائدة.
- قولي لي، ستاسيا، ما لون الأقلام التي تكتبين بها؟
سأل مجددا. وأضاف كما لو كان ينتظر الرد بفارغ الصبر:
«باللون الأزرق، أليس كذلك؟» منذ أن ابتكرت، تستخدم أقلام الحبر لون الأزرق.
تلاشت الابتسامة تدريجياً من وجه المرأة المليء بالتجاعيد.
"لا داعي للقلق كثيرًا. هناك أيضًا اللون الأحمر والأخضر."
نعم، لكن غالبًا ما يكون اللون أزرق، أليس كذلك؟
- هل تريد أن تشرب شيئا ؟ ربما القليل من المشروبات الكحولية محلية الصنع ؟
كان يريد أن يرفض، لأنه لم يُسمح له بشرب الكحول من قبل ، لكنه قرر أن هذه الحالة خاصة. لذا وافق.
توجهت الجارة نحو خزانة الحائط، وأخرجت منها زجاجة من الميني بار، حيث ملأت كأسين بعناية. كانت يديها ترتجفان قليلاً. كانت ألوان الغرفة تتكون من الأبيض والأزرق: النسيج كان مزيناً بخطوط زرقاء، بينما كانت الأريكة وقميصها أبيض، والوسائد زرقاء. على الطاولة، كانت هناك باقة من الزهور الاصطناعية بالأزرق والأبيض. انساب الخمر بحلاوته إلى أفواههما، بينما انزلقت الكلمات المحفوفة بالمخاطر إلى أعماق النفس.
قال بحذر: «أخبريني يا ستاسيا، ألا تشعرين أن العالم قد تغير؟» كان الأمر كما لو أنه أصبح... (كان يبحث عن الكلمات المناسبة). بعيدًا عن متناولنا؟ استعادت ابتسامتها، ويبدو أنها كانت مرتاحة.
بالتأكيد، عزيزي، أنت محق تمامًا. لقد مضى الوقت بسرعة مذهلة، وهذا هو السبب. في الحقيقة، الأمر ليس مرتبطًا بتغير الزمن فحسب، بل بتغيرنا نحن أيضًا؛ فقد استنفدت عقولنا حتى باتت عاجزة عن استيعابه كما اعتدنا.
حرك رأسه بلا حول ولا قوة ليخبره أنه لا يفهم.
- كما هو الحال مع تلك الساعة القديمة، صديقي العزيز، قرأت شيئاً مثيراً حول هذا الموضوع. في تلك الساعة، تتحول حبيبات الرمال إلى شكل دائري متزايد أثناء انزلاقها، وتسير بسرعة متزايدة. وكأن الساعة القديمة تُعجل في دورتها. هل كنت تعلم؟ الأمر ذاته ينطبق على جهازنا العصبي، الذي أصابه التآكل، كما ترى. إنه يشعر بالتعب، وتنساب المنبهات من خلاله كالماء في مصفاة، مما يترك لدينا انطباعاً بأن الوقت يتسلل من بين أصابعنا.
والباقي ؟
- ماذا تبقى ؟
- أنت تعرف جيدا...
كان يبحث عن إجابة أكثر دقة، لكن لم يخطر بباله شيء، لذلك سأل بصراحة:
- هل سمعت عن طوابع بريدية ذات زاوية مستديرة ؟
قالت وهي تملأ كأسها مجددا: «مثير للاهتمام». لا، أبدا.
- ونظارات ذات منقار؟ على سبيل المثال. في السابق، لم يكن لديهم أي...- لكن... أرادت الإجابة.
استمر
- أو الأوعية التي تُفتح من خلال تدوير الغطاء إلى اليمين، أو الساعات التي تحتوي على الرقم صفر بدلاً من الاثني عشر، أو...صمت،
غاضبة جدًا من الاستمرار.
كانت تجلس أمامه ويدها متشابكتان في حضنها. استأذنت فجأة، بأسلوب مهذب ومناسب، مما جعلها تبدو كأنها فقدت كل طاقتها. فقط جبهتها المجعدة قليلاً كانت تشير إلى الضيق الذي تسبب فيه الموقف.
نظر إلى جارته العجوز بقلق وإحباط ثم غادر.
في تلك الليلة الحالكة، كما جرت العادة منذ الجنازة، استلقى على سرير شريكة حياته. جذب اللحاف حتى غطى أنفه، واستلقى على ظهره متأملاً في غياهب الظلام، مستمعاً لدقات قلبه التي كانت تردد أصداء الوحدة. لم يأت النوم، فقام ببطء وفتح خزانة الملابس ليستخرج ثوب النوم الوردي الذي كان يخص زوجته. ضمّه إلى صدره كأنه يحتضن ذكرياتها، نجت صرخة مختنقة من حلقه. كان ذلك القميص بمثابة طوق نجاة له، فسرعان ما جاء النوم وأخذ معه كل ما كان يُثقل كاهله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) قصة قصيرة من كتاب “ قصص غريبة “ صدر ٢٠٢٠م