نصائح شوبنهاور للأطفال والشباب الموهوبين
السعي وراء الشهرة والثناء لا يُثبت بالضرورة جدارتك.
ترجمة : إقبال عبيد
كتابة : ليون قاربر
نصائح شوبنهاور للأطفال والشباب الموهوبين ليست دعوة إلى الركض خلف بريقٍ زائف، بل تذكيرٌ عميق بأن السعي وراء الشهرة والثناء لا يُثبت بالضرورة موهبتك ولا يُكرّس جدارتك. فالشُهرة، في نظره، لامعة من الخارج لكنها جوفاء إن لم تُسنَد إلى قيمةٍ حقيقية.
كان شوبنهاور يضع الشرف والبحث عن الحقيقة فوق كل مجدٍ دنيوي، ويرى أن الشهرة بلا جوهر ليست سوى ضوضاء؛ صوتٌ يرتفع سريعًا ثم يخبو دون أثر. لذلك ميّز بين الشهرة والقيمة تمييزًا قاطعًا: فكم من مشهورٍ لم يُقدّم شيئًا يُذكر، وكم من عظيمٍ بَقي مجهولًا لأن زمنه لم يفهمه بعد.
ولأنه كان واسع الصبر على نفسه، غير متعطشٍ لمديح الناس، استطاع أن يحيا خارج ابتزاز التقدير الاجتماعي، فلا يبالغ في طلب الاعتراف ولا ينهزم أمام تأخّر فهم الآخرين لأفكاره. هذا الصبر، لا الطموح، هو ما سمح له أن يتقدّم في فكره ببطءٍ ثابت، مُتحرّرًا من ضغط الجمهور.
ورغم أنه لم يمنحنا عزاءً كبيرًا في مسألة الموت، ولم يتظاهر بامتلاك إجاباتٍ تُخفّف وطأة الفناء، إلا أنه بشكلٍ يكاد يكون غير مقصود قدّم لنا ما هو أثمن: إيمانًا بأن الحياة، على قسوتها وتقلّباتها، تستحق أن تُعاش. كان عدميًا في رؤيته، لكنه علّمنا أن مواجهة العبث بشجاعة هي شكلٌ آخر من أشكال الحياة الجديرة بالبقاء.
في كتابه الجديد “آرثر شوبنهاور: حياة وفكر أعظم متشائمي الفلسفة”، يقدّم ديفيد باثر وودز سيرة الفيلسوف الألماني بأسلوبٍ يقترب من الحكايات الرمزية؛ فيجعل القارئ يشعر أن هذا الرجل المنعزل، الذي بدا كأنه يعيش على هامش الوجود، قد عاش في الحقيقة حياةً أكثر ثراءً واتساعًا فكرًا وتجربةً مما يحلم به معظمنا. المفارقة التي يكرّرها الكتاب تكشف عن سؤال أعمق: هل يمكن أن تبلغ الحياةُ طيبَتها القصوى حتى عندما تتخذ هيئة الانسحاب والتجنّب؟ وهل قد يكون العيش في الظلّ أحيانًا تعبيرًا مختلفًا عن الامتلاء الداخلي؟
من وجهة نظري، تبدو حكمة شوبنهاور مُوجَّهة على نحوٍ خاص إلى الأطفال والشباب الموهوبين، أولئك الذين يعانون ثقل التوقّعات، وصعوبة تحويل مواهبهم الفطرية إلى إنجازٍ ملموس. فبين صفحات سيرة باثر وودز، يتبدّى شوبنهاور كأنموذجٍ روحيّ لمن يبحث عن معنى بعيدًا عن الضوضاء: يناقش الشهرة والتقدير والشرف والمعنى من زاويةٍ تتجاوز الظاهر؛ ويقدّم من خلال حياته نفسها درسًا غير مباشر في التردّد، وفي التروّي الذي يشكّل مسار الموهوب حين يتعامل مع ذاته بغير استعجال، ويختار مهنته ووجوده وفق إيقاعه الداخلي لا وفق مطالب العالم.
وبينما كنتُ أطالع سيرة شوبنهاور، خطر لي شكلُ تعاملي مع المرضى الذين يُثقلهم هاجس الكمالية، وتلك الحاجة المتعطّشة إلى تصديق الآخرين. إنهم أولئك الذين يرون في الثناء مرآةً حاسمة لقيمتهم الفطرية، ودليلًا على أن وجودهم مُبرَّرٌ وذو شأن. فإذا أصبح الحسم في تقدير الذات رهينًا للعالم الخارجي للشهادات، والتقييمات، وانطباعات الآخرين عندها يبدو شوبنهاور وكأنه يفتح بابًا آخر للخلاص، حتى لو جاء هذا الخلاص من حيث لا يتوقّع المرء.
فمنذ طفولته، كان آرثر يدرك أنّ العمل الأكاديمي هو ميدانه الطبيعي ومساره المحتوم، ربما لأنه كان ينفر تلقائياً من كل ما يشبه العمل العادي أو الروتين المألوف. ولعل إيمانه بنفسه، في جانبٍ كبير منه، كان امتدادًا لخوفٍ عميق من الحياة العادية من الرتابة، ومن الانغماس في نسقٍ يومي بلا عمق. لكن المفارقة، التي تعاود الظهور في كل محطة من حياته، أنّه بدا قادرًا على التعايش مع تلك الحياة ذاتها حين انسجمت مع قيمه وأفكاره، لا حين فُرضت عليه.
ويقدّم باثر وودز خلاصة رؤية آرثر للحياة الطيبة، رؤية شديدة التركيز تنقسم إلى ثلاثة عناصر:
ما هو الإنسان.
ما يملك.
ما يمثّله.
وفي هذا التقسيم، تحتل الشخصية بمعناها الأخلاقي والداخلي المركز الأعمق، وتحلّ محلّ العنصرين الأخيرين، بينما ترتبط الشهرة بما يُمثّله المرء ظاهريًا، لا بما يكونه حقًا. وهكذا تتقلّص قيمة الشهرة إلى مجرد انعكاس خارجي، وتبقى الحقيقة كامنة في جوهر الإنسان نفسه.
كان شوبنهاور يؤمن أنّ الموهبة الحقيقية أو القيمة الاجتماعية الأصيلة هي وحدها التي تمنح صاحبها شهرةً دائمة؛ أما الشهرة التي تُبنى على الصدفة، أو الامتياز غير المستحق، أو الصيحات الزائلة، فمصيرها أن تتبدّد كما يتبدّد كل ما لا جذور له. ورغم أن باثر وودز يُقرّ بأن هذا التصوّر ليس صحيحًا دائمًا في عالم تحكمه المصادفات والتحيزات، إلا أنّه يشير بشيء من الإصرار إلى عمق المبدأ الأخلاقي الكامن في رؤية شوبنهاور. فبالنسبة لفيلسوفٍ قدّم الشرف على الشهرة، لم تكن الشهرة غير المستحقة سببًا للفخر، بل كانت على العكس، مدعاة للتواضع أو حتى الخجل؛ لأن الفخر الحقيقي لا ينشأ من كونك مشهورًا، بل من كونك تستحقّ أن تكون كذلك.
أما الكماليون، أولئك الذين يواجهون تناقضات العالم ومحطّاته غير المتوقعة، فيميلون إلى بناء منظومةٍ صارمة لفهم الحياة: فإذا كانوا موهوبين، فإن العدالة كما يتصورونها تقتضي مكافأتهم دائمًا، وإن لم تُكافِئهم الدنيا، فهذا يعني في نظرهم أنهم بلا موهبة أصلًا. ورغم أن هذا المنطق يبدو مُحكمًا من الداخل، إلا أنه كما يرى شوبنهاور لا يعكس حقيقة العالم دائمًا. فالموهبة قد تتأخر عن الاعتراف، والقيمة قد تُظلَم، والشهرة قد تذهب لمن لا يستحقّها، بينما ينتظر أصحاب القيمة الحقيقية زمنهم بصمتٍ طويل. وهكذا يكشف شوبنهاور أن اتساق الفكرة لا يكفي لجعلها صادقة، وأن العالم أوسع وأكثر مفارقةً من أن يُختزل في معادلات الكماليين الدقيقة.
يُبرز باثر وودز رؤية آرثر بوضوح حين يكتب: “القيمة لا تكمن في الشهرة نفسها، بل في ما يضمنها”. فهذه الفجوة بين الشهرة والقيمة تفتح الباب أمام صورتين من الظلم: مبالغات تُرفع فوق استحقاقها، وعباقرة يُهملهم الزمن دون إنصاف. لطالما قلتُ لمرضاي، وذكّرت نفسي قبلهم، أنّ الدكتوراه أي مؤهل آخر لا يصنع شخصية صاحبها. فقد غيّر أشخاصٌ لامعون مجرى التاريخ بلا شهادات، بينما مرّ كثيرٌ من أصحاب الألقاب العليا دون أن يتركوا أثرًا يُذكر. إن المعادلة أبسط وأعمق في آن: إمّا أن تكون موهوبًا أو لا، ذكيًا أو لا؛ والطرق التي تُثبت بها هذه الصفات متعدّدة، ولا تختصرها ورقةٌ مُعلّقة على جدار. وهذه التجربة بأبعادها كافة عاشها شوبنهاور نفسه.
فبدلًا من أن يُعرّف آرثر بمؤهلاته، عرّف نفسه باسمه فقط، أو هكذا أراد. فقد رفض كتابة درجته العلمية على باب منزله، وأبى أن يُنقش على شاهد قبره شيءٌ يتجاوز اسمه. حتى إنّ أحد جيرانه قال: “يكفيه اسمه، فهو يعلم أن لا لقب في العالم يضاهي اسم آرثر شوبنهاور!”. وليس في هذا ما يدل على غرور، بل على بصيرةٍ مبكرة بحدود التصديق الخارجي، وبالازدواجية التي تحكمه: من يرفعونك حينًا، وينبذونك حينًا آخر. لذلك حمل آرثر عبء اكتشاف قدراته بنفسه، وإثباتها بقدر ما يستطيع، دون أن يستند إلى لقبٍ أو وثيقةٍ تُشرعن قيمته.
ولعلّ الدرس الأعمق هنا أن لا أحد منا مطالب بأن يكون شوبنهاور؛ فهو نفسه لم يكن “شوبنهاور” الذي نعرفه إلا في أواخر حياته. كان مجرد إنسانٍ يحاول أن يتعرّف على ذاته بعيدًا عن أعين الجمهور. لكن ما نستطيع جميعًا حمله من تجربته هو هذا المبدأ: أن القيمة تبدأ من الداخل، وأن الاعتراف الخارجي قد يأتي متأخرًا، أو قد لا يأتي إطلاقًا ومع ذلك تبقى القيمة قيمة.
بفضل ثقته الصلبة بنفسه، وعناده الفلسفي، وعجزه الفِعلي عن الانغماس في تفاهات الحياة اليومية، لم يسعَ شوبنهاور إلى الشهرة إلا وفق شروطه الصارمة إن كان لا بدّ أن تأتي، فعليها أولًا أن تُثبت له أنها جديرة به، لا أن يكون هو الساعي إليها. كان يرى أن الحقيقة هي الغاية العليا، وأن أي إشادةٍ تُبنى على الوهم أو المجاملة ليست سوى تشويهٍ للقيمة، مهما حاولت أن تلبس قناع الاستحقاق. فالإطراء المبني على الكذب، في نظره، إهانة لا مجاملة.
وبرغم تشاؤمه العميق، أو ربما بفضله، يمدّنا شوبنهاور بأداةٍ أخلاقية نادرة: أن نعيش بشرف، وأن ندرك أن المكافآت حين تكون جميلة ومتألقة Kلا تُعرّفنا بالضرورة، ولا تشهد وحدها على جوهرنا. في فيلم ديزني “Cool Runnings”، يذكّر جون كاندي أبطاله بحكمةٍ بسيطة وعميقة: إن لم يكن المرء كافيًا بلا ميدالية ذهبية، فلن يكون كافيًا حتى لو حمل واحدة.
ولكان شوبنهاور ليهزّ رأسه موافقًا: فالإشادة لا تمنح القيمة؛ إنها فقط تكشفها إن كانت موجودة. أمّا من يفتقر إلى الاستحقاق، فلن تُقنعه ولا تُقنع العالم جبالٌ من التصفيق بأنه يستحقّه.
وهكذا يبقى الدرس الأخير: أن الجوهر يسبق الاعتراف، وأن القيمة تُصنع في الداخل قبل أن تُرى في الخارج.






قد شدّد شوبنهاور في كتاباته كثيرًا على استجداء قيمة ما يقوم به المرء من داخله ومن تواصله مع الشيء وأن يُصرِف المرء ارتباطه إلى كل القيم السامية والغير مُعرّضة للتغيّر حسب أمزجة الناس، وكأنه يدعوا إلى أن يربط الأنسان نفسه مع الشيء دون النظر لنتائجه وهي علاقة يعيشها كل من يُحرّكه الفضول نحو الشيء.
وعن الشهرة والاعتراف أذكر بالإضافة إلى ما ترجمتوه، مشهد من مسلسل التغريبة الفلسطينية وفيه أخ يرثي أخوه الذي كانت حياته عبارة عن بطولات غير معترف بها بين الناس والرثاء طويل أذكر منه نص بقي عالقاً في ذهني حتى اليوم، يقول عن أخيه: "فمن يحملُ عِبءَ الذّاكرة؟ و من يكتب سيرةَ من لا سِيَر لهم في بطونِ الكُتب.. أولئك الذين قسّموا جُسومهم في جسوم الناس، و خلّفوا آثارًا عميقةً تدلُّ على غيرهم و لكنّها لا تدلّ عليهم"
شكرًا لكِ فعلاً على ما تقومين به