كتابة : إقبال عبيد
في عادتي الليلية، وقبيل أن يطرق النوم أبوابي، أجد نفسي منجرفة في تيهٍ لا ينتهي من السكرولنج عبر تيك توك؛ بين خوارزميات متشابكة تنثر أمامي الضحك الخفيف، وحِكم الفلاسفة، ووصفات المطبخ، وفنون السفر والترحال. غير أن عيني توقفت عند حسابٍ مغمور الطابع، عميق الجوهر، يقدّم مقطعًا قصيرًا لا يتجاوز عشر ثوانٍ: قنافذ صغيرة في حفرة موحشة، ترتجف من قسوة البرد، تحاول الاقتراب من بعضها طلبًا للدفء، لكنها ما تلبث أن تتراجع خوفًا من وخز أشواكها التي تؤذي أجسادها الناعمة.كان المشهد شديد الرمزية، ومع التعليق المصاحب اكتشفت أنه ليس مجرد مشهد عابر، بل تمثيل حيّ لما يُعرف في الفلسفة وعلم النفس عند شوبنهاور بـ "معضلة القنفذ". لم أستطع أن أترك الأمر يمر مرور العابرين؛ فتحت نوافذ "غوغل" لأتأكد من أصل النظرية ومصدرها، فوجدتها راسخة وموثقة. عندها استبدّ بي الفضول، ولم أهدأ حتى غصت في الأوراق والمراجع، باحثة عن المزيد، عاقدة العزم على كتابة تدوينةٍ عن هذه المعضلة التي تكشف لنا سرّ المسافة الإنسانية الآمنة بين القرب المؤنس والبعد الواقي.
يروي شوبنهاور مشهدًا رمزيًا بليغًا: مجموعة من القنافذ تدفعها برودة الشتاء القاسية إلى الاقتراب طلبًا للدفء. غير أن ما يفترض أن يكون خلاصًا، تحوّل إلى مصدر ألم، إذ راحت أشواكها تخدش بعضها البعض، مما أجبرها على التباعد. لكن مع عودة الصقيع، كان لا بد لها من الالتقاء مجددًا، إلى أن اهتدت إلى تلك "المسافة المناسبة" التي تكفل الدفء دون أن تجلب الأذى.
هذه الصورة الكثيفة التي خطّها شوبنهاور لم تكن مجرد حكاية عن حيوانات صغيرة، بل استعارة عميقة عن واقعنا كبشر: فنحن نحتاج إلى الآخرين بقدر ما نخشى اقترابهم المفرط. إن القرب غير المحسوب قد يتحوّل إلى جرحٍ للذات أو انتهاكٍ لحدودها، ومن هنا تنبع أهمية ما يمكن تسميته بـ اللياقة الإنسانية أو فنّ الحفاظ على المسافة الآمنة التي تصون العلاقات.
وقد ضمن شوبنهاور هذه الرؤية في كتابه Parerga and Paralipomena (1851)، لتعرف لاحقًا باسم "معضلة القنفذ"، أو كما يسميها بعضهم: "معضلة النيص"، لتغدو واحدة من الصور الفلسفية الأكثر نفاذًا في التعبير عن هشاشة التوازن بين حاجتنا إلى القرب وخوفنا من الأذى.
تنبثق معضلة القنفذ من صميم ميتافيزيقا شوبنهاور حول «الإرادة»، تلك القوة العمياء التي تسري في عروق الوجود، وتدفع الحياة دفعًا نحو الرغبة والصراع. نحن، بفعل إرادة الحياة، محكومون بالاقتراب من الآخرين طلبًا للأنس والدفء، غير أن هذا القرب ذاته يولِّد احتكاكًا لا مفر منه، فتندلع الآلام في القلوب كما لو كانت أشواكًا خفية. لذلك، يوجّه شوبنهاور إلى ضرورة حفظ مسافة أدبية-اجتماعية تتيح لنا الحميمية بقدرٍ محسوب، وتمنحنا الدفء دون أن تجرحنا قسوة القرب المفرط. وقد تكرّست جذور هذه الحكاية في كتابه Parerga and Paralipomena، حيث فسّرتها المراجع الشارحة المعاصرة بوصفها صورةً دقيقة لتوازنٍ إنساني هشّ.
أما فرويد، فقد التقط هذه الصورة وأعاد تشكيلها في هيئة فرضية سيكولوجية: إذ يرى أن كل علاقة حميمة ممتدة—سواء كانت زواجًا أو صداقة أو رابطة بنوّة—لا بد أن تخلّف رواسب من عدوانٍ كامن، بمعنى أن أوثق روابط الدفء تحمل في طياتها بذور التوتر والخصومة. ومن ثم يصبح النضج النفسي وضبط الحدود شرطًا لازمًا لدوام العلاقة واستمرارها. النص الوارد في ترجمة ستراتشي يؤكد هذه الإحالة المباشرة إلى القنافذ، ويضيء أبعادها الدينامية.
وفي المقابل، يرفض نيتشه تشاؤم شوبنهاور، ويقترح بديلًا مغايرًا: فبدل «الإرادة العمياء» يطرح مفهوم «إرادة القوّة»، نزوعًا نحو التوكيد الذاتي والتجاوز. وفي «هكذا تكلّم زرادشت» وتحديدًا في باب «عن الصديق» يكتب: «في صديقك ينبغي أن يكون لك أفضلُ عدوّ… كن أقرب إليه بقلبك حين تُقاومه». هنا تتحوّل الصداقة الحقيقية من مجرد ملاذٍ للطمأنينة إلى ميدان صراعٍ مثمر، تتجاذب فيه الأرواح وتتدافع، لا لتتهشّم، بل لتسمو وتترقّى عبر التصادم ذاته.
ترى رؤية نيتشه في الصداقة أنها ليست ملاذًا للسكينة فحسب، بل ساحة اختبار وإبداع. فمفهومه عن "إرادة القوّة" لا يعني قهر الآخرين أو الهيمنة عليهم، بل يتعلّق ببناء الذات وتجاوز حدودها، وكأنّ القرب بين البشر يتحوّل أحيانًا من مجرّد طلبٍ للحماية إلى تمرينٍ متبادل على الارتقاء والسمو.
أمّا كيركغارد، فيضع الإنسان فردًا وحيدًا أمام الله، محلّلًا القلق بوصفه ارتجاجًا عميقًا للحرية. وهنا يتبدّى بعدٌ وجودي آخر لمعضلة القنفذ: فحتى أقرب العلاقات الإنسانية لا تستطيع ردم هوّة الوحدة المطلقة؛ إذ تظلّ هناك مسافة عصيّة على الإلغاء بين ذاتٍ وأخرى، مسافة مرتبطة بمصير الإنسان الفردي وعلاقته بوجوده الإلهي.
ويأتي سارتر في عمله الجوهري «الوجود والعدم» ليستعرض تجربة "نظرة الآخر"؛ فعندما أُصبح موضوعًا لنظر الآخرين، يتحوّل وجودي إلى كيانٍ مُعرَّض لحرية غيري، فتُهدَّد بذلك حريتي وهويتي. هذا هو جوهر الصراع عنده: نحن بحاجة إلى الآخر لتثبيت ذواتنا، غير أن هذا الآخر نفسه يُقيدنا بنظرته. وقد كثّف سارتر هذه المفارقة في مسرحيته الشهيرة «لا مَخرج» من خلال عبارته المعروفة: "الجحيم هو الآخرون". غير أنّ هذه العبارة، وفق التفسيرات الفلسفية العميقة، لا تعكس عداءً للإنسانية، بل تكشف خطورة اللحظة التي نسمح فيها لأنفسنا أن تُعرَّف كليًا من خلال نظرات الآخرين.
فعليًا دائمًا ما تكون العلاقات في حالة من الحّركة والتغيُر فالمشاعر والادوار على حسب الاحداث والمواقف .
ولو نظرنا من منظور اخر لمثال القنافذ قد اقول أن المُعضلة الحقيقة هي الحاجة الضرورية للاخر "للنجاة" .. وهذا بالطّبع ينطبق علينا نحنُ كبشر .
فبالتالي الجروح والآلام التي تُرافق هذه الحاجة يُصبح من الضروري تقّبُلها لان هُناك معنى منها وهي من أساسيات البقاء .
لذا قّد اقول ان نيتشه وُفق بأن يُسميها "ارادة القّوة" .. وهي تقريبًا أصدق تسمية تُعبر عن هذه الحالة وعن القُدرة على خوض وتحمُل هذه الالام والجروح لغاية اسمى .
وصراحة يعني يظل وسيظل الانسان دائمًا كائن مُتقلب .. وهذا هو السبب الرئيسي للالام والجروح ، لكن لا بأس بهذا .
شُكرًا لك اقبال على هذا الاثراء الشامل الواسع ابدعتِ.
مقالة ممتازة. نريد مثلها اكثر.